رأينا المبادرات المنظمة من طرف أطر ومنتخبي ووجهاء بعض ولايات الوطن والمطالبة بمأمورية ثالثة لرئيس الجمهورية، ومن المعلوم أن بكل ولاية من هذه الولايات جماهير ما سُمي الوجهاء وجهاء إلا لأن تلك الجماهير تعطيهم مكانتهم التقليدية في الحديث باسمها، وأن بكل ولاية من هذه الولايات ناخبين هم من أوصلوا هؤلاء المنتخبين لمناصبهم الانتخابية، ولم يتم اللجوء للانتخاب أصلا إلا للحصول على ممثلين الشعب في ظل تعذر أخذ رأي كل فرد على حدة، كما أن للأطر هم أيضا مكانتهم وكلمتهم في مناطقهم.. ومن كل هذا، عل الأقل، يحصل " ماء لحم " تعبير ومساندة شعبية لهذا المطلب.
في حين لم نجد مبادرات مضادة لهذه المبادرات بالزخم والحجم اللذين جرت بهما مبادرات المأمورية الثالثة بوجهاء وأطر ومنتخبين من هذه الولايات، خصوصا وأن حرية التعبير والتظاهر والإعتراض مكفولة، وقد جرى ما يزيد 800 مظاهرة ومسيرة ونشاط مرخص على مدى سنتين ونصف مطالبة برحيل نظام منتخب لا يزال في مأموريته الأولى، دون أن ترافق ذلك دموع على الدستور رغم مخالفة ذلك الحراك له، حتى ولو كانت دموعا " ماسخة " كالدموع على الدستور اليوم..!
المطالبون بمأمورية ثالثة لرئيس الجمهورية صنفان، أصحاب مصالح وامتيازات وقد خلق الإنسان منذ الأزل هلوعا، يتشبث دوما ببقاء واستمرار ما يضمن مصالحه وامتيازاته المادية والمعنوية، ويخشى أن أي تغير أو تغيير سيكون على حساب تلك المصالح والامتيازات، بنفس حجم طمع وطموح آخرين في الطرف الآخر، لا يرون مصالح ولا امتيازات لهم في الوضع القائم، في الحصول على مصالح وامتيازات جديدة إن تغيرت الأمور دواليك.. خصوصا وأنهما، أي المصالح والامتيازات، لا يزالا يرتبطان في بلدنا بالدولة نتيجة لضيق وصغر حجم الإقتصاد الذي بدأ للتو يتشعب ويتوسع وتستقل مجالاته عن الدولة مع بشائر وآفاق الاستثمارات المحلية والأجنبية وتسليم مقاليد الإقتصاد للقطاع الخاص.. دون أن نظلم بعض الأطر والوجهاء والمنتخبين أيضا ونضعهم كلهم في خانة واحدة هي خانة ما يسمى بالمتزلفين، فمنهم أيضا شاهدون على ما تحقق في بلدهم ومن حقهم المطالبة بمواصلة المسار الذي تحقق في ظله ما تحقق، ولا ينبغي أن نحتكر " استمارات " الحس الوطني والتعلق بالوطن والحرص على مصالحه نعبؤها بأسماء وصفات من نريد.. ولنترك للآخرين مواقفهم وخياراتهم إذا أردنا أن يتركوا لنا مواقفنا وخيارتنا، ولنتذكر أيضا أن بعضنا لا يقل تقلبا في مواقفه عن تقلبهم في مواقفهم خلال محطات ومراحل الحياة السياسية في البلد..
لكن الصنف الثاني من هؤلاء، حتى ولو أجمله الدعائيون في جملة من يصفونهم بالمطبلين والمزمرين، إلا أنهم مواطنون عاديون مثلي ومثلك ليسوا أطرا ولا وجهاء ولا رجال أعمال ولا أصحاب مصالح ولا امتيازات سوى المصالح والامتيازات العامة التي لا متستهم ولا مسوها من خلال حكامة جديدة ظهرت خلال هذه العشرية في تعاطي الحاكم مع الشأن العام وقضايا وهموم الوطن وانشغالات المواطنين، وفتحت الأبواب والآمال في تأسيس وطن يريد ويعمل على أن ينهض ويرفع رأسه، ويشق طريقه ويحتجز مكانته في محيطه وإقليمه والعالم من حوله.. صحيح أن منسوب الوطنية والمواطنة بين أفراد مجتمعنا لا يزال، وللأسف الشديد، دون المستوى الكافي والمطلوب وذلك هو أحد تحديات البلد، حيث لا يزال أغلب الناس يعتمد في قياسه لمكتسبات الوطن على ما دخل بيته أو جيبه حتى ولو كانت تلك المكتسبات عامة شمل أثرها غيره، ولكن ذلك لا ينفي أو يمنع وجود بقية تُؤثر وطنها على نفسها وتقيس مكتسباته لا على ما تحقق لها شخصيا وإنما على ما تحقق له عموما..
المنافحون ضد المأمورية الثالثة هم بدورهم صنفان، معارضة ليس بالجديد عليها رفض المأمورية الثالثة لأنها ظلت ترفض حتى المأموريتان الأولى والثانية، بل وترفض وجود الرئيس محمد ولد عبد العزيز في الحكم وفي الساحة السياسية أصلا، وظل يشغلها ذلك الرفض عن كل الحوارات حول مختلف القضايا داخل البلد رابطة ذلك بإجبارية إفصاح الرئيس عن مستقبله السياسي، واضعة ذلك المترس علنيا أو ضمنيا على رأس شروطها للحوار، رغم أن تأكيد الرئيس على عدم نيته الترشح لمأمورية ثالثة لم يكن بالجديد، فقد أكده مرارا في مأموريته الأولى وفي مناسبات عديدة بعد ذلك، ورغم أنه أيضا صرح عشر مرات بأنه لن يغير الدستور من أجل مأمورية ثالثة، ولم يصرح ولا مرة واحدة بأنه سيفعل ذلك! وكنا نقول منذ ذلك التاريخ إن مفهوم المعارضة للتناوب على السلطة هو وصولها هي السلطة وإلا فلا تناوب. إلى أن صرحت هي بذلك علنا مع تزايد مؤشرات احترام الرئيس لعدد المأموريات وقالت إنه لا فرق بين مأمورية ثالثة للرئيس عزيز ومأمورية ثالثة لنظامه!
الصنف الثاني من هؤلاء مزايدون جدد، بعض كتاب وبرلمانيين ومن يعرفون أنفسهم بالنشطاء ومنهم موالون، ولكنهم بهذا الوقوف ضد المأمورية الثالثة يمارسون " ترصيفت ول لعرب المسموع بيها " بعد أن تأكدوا أن لا نية للرئيس في الترشح لمأمورية ثالثة، يريدون أن يُحمدوا بما ليس لهم فيه أي دور، ولا لضغطهم فيه أي أثر ليقفوا لنا غدا ويقولوا، نحن من وقفنا ونافحنا ضد المأمورية الثالثة..!
لكن مهلا، فاللفريقين نقول قضي الأمر الذي فيه تتمارون وتتبارون، فللبلد قائد عودكم على قراراته غير المبنية على الاستفزاز ولا الابتزاز، وإنما على مصالح وخدمة وطنه وبلده بروح الغيرة المسلحة بالعزيمة والإرادة، فنقله من الانسداد والحضيض على مختلف الصعد إلى بلد يمهد الطرق أمام تحقيق الآمال والتطلعات، يتنفس التفاؤل ويصحو على الآفاق، ويحقق النجاحات الاقتصادية والتنموية والأمنية والدبلوماسية في ظل ديمقراطية تتطور وحريات تتعزز، وباني تلك الصروح هو الأدرى بأنجع الطرق للمحافظة عليها، ولذلك لم يداهن ولم يُراوغ وأعلنها صراحة، لن أترشح لمأمورية ثالثة صونا لتلك الصروح، وسأبقى قريبا لحمايتها وتعزيزها.. وذلك هو ماظللنا نتحدث عنه، أي مواصلة المسار والنهج والمشروع، وترك سفينة البلد على الجودي الذي استوت عليه بعد طول ترنح وتيه، دون كبير تركيز على الربان القادم ما دام من نفس الفريق ومن راسمي خارطة طريق وإحداثيات وجهة سفينة البلد.. وهو ما نعتقد أيضا أنه هو منطلق وأهداف أصحاب المبادرات حتى وإن اختلفت الصيغ والعناوين.. وليس من بيننا غبي واحد ينتظر أو يتوقع من مناوئين مقاسمته الرؤية حول ما يراه مسارا ونهجا ومشروعا يستحق الاستمرار والبقاء ولن يضيع الوقت في انتظار ذلك.
والمضحك أن الأمر بلغ بالمنافحين ضد المأمورية الثالثة حد " إغراء " الرئيس بالترشيح للجوائز العالمية إن هو احترم تعهداته كالطفل الذي يوعد بالحلوى إن هو لم يخرج للشارع..! لا ياسادة، ليس الرئيس محمد ولد عبد العزيز طفلا ولم يكن يفكر في الحلوى ولا في الجوائز لا " مو ابراهيم " ولا غيرها، بما في ذلك جائزة العبقرية الفردية والتفكير الاستراتيجي التي منحت له بالأمس من طرف معهد مانديلا، ولا في ما سيأتي من تلك الجوائز في قادم الأيام.. لم يكن يفكر في ذلك عندما تدخل لفك الانسداد وفتح الطريق والأفق المسدودين في بلده سنة 2005 حين لم تكن جائزة " مو إبراهيم " في الوجود حيث أنشئت سنة 2006 عاما بعد ذلك التدخل، ولم يكن يفكر فيها عندما كانت كل التحولات والإصلاحات السياسية التي أعقبت ذلك التدخل تحت إشرافه، بما في ذلك تحديد عدد المأموريات، باعتباره الحاكم الفعلي لتلك المرحلة، كما لم يفكر في الجوائز في ما تلى ذلك من تدخلات لتقويم مسار البلد وأخذ زمام المبادرة لتطبيق رؤيته بنفسه بدل إيكالها لآخرين ظهر أنهم ليسوا على قدرها، ولم يكن يفكر في الجوائز بالتأكيد خلال عشر سنوات من حكمه طبعها الانهماك في تطوير بلده على كل الصعد والمجالات استراتيجيا لا تكتيكا، وإيمانا بالرؤية والمشروع لا جريا وراء الجوائز التي تأتي دوما بعد تقييم بعدي لعمل قبلي..
وإنه لعمري اعتراف بما حققه الرئيس طوال فترة حكمه جاء غفلة أو غلبة ممن ظل يقول أن لا شيء يذكر قدمه الرئيس للبلاد، عندما يرشحه لجائزة من شقين اقتصادي أولا ثم سياسي لا تتجزأ ولا يجزئ استحقاق شق واحد منها للحصول عليها عن شقها الآخر، فهي كما أسسها صاحبها تكون حقا لكل رئيس إفريقى قام بجهود واضحة ومعترف بها في مجالات التطوير الإقتصادي والتنموي بشفافية وتنازل عن السلطة في بلده سلميا وديمقراطيا.
ولذلك، ولمحورية الجانب الإقتصادي والتنموي وشفافية التسيير في الجائزة، فقد كان المدير التنفيذي لمؤسسة " مو إبارهيم "، إبراهيم جانيت، أحد ضيوف مؤتمر نواكشوط للشفافية والتنمية المستدامة في إفريقيا المنظم في نواكشوط بمبادرة من موريتانيا بتاريخ 19 يناير 2015، واستقبل من طرف رئيس الجمهورية وصرح بعد خروجه من اللقاء وقال " هناك جهود كبيرة جدا بذلتها قيادة موريتانيا لترقية الشفافية ومحاربة الرشوة وفي جميع مناح الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البلد، واعتقد أن الرئيس في وضع جيد للإشراف على مثل هذه النقاشات الإفريقية ".
وفي السياق ذاته، ولمحورية الجانب الإقتصادي والتنموي وشفافية التسيير في الجائزة دائما، فقد كان عبدول جانيه المدير التنفيذي المكلف بالعلاقات مع الحكومات والمؤسسات الإفريقية في مؤسسة " مو إبراهيم " هنا في زيارة لموريتانيا فاتح أكتوبر 2018، واقتصر في لقاءاته ومباحثاته على المسؤولين في القطاع المالي والاقتصادي الذين بحث معهم أوجه التعاون بين مؤسسته وموريتانيا وفرص توثيق العلاقات خاصة فيما يتعلق بتقييم أداء السياسات العمومية وتطبيق معايير شفافية التسيير الإداري والمالي المعتمدة عالميا وفعالية هيئات الرقابة والتفتيش، ولم يلتق هذا المسؤول أيا ممن لهم علاقة بالمسار السياسي..
وعليه فإذا مُنح الرئيس محمد ولد عبد العزيز جائزة " مو إبراهيم " فلن يكون ذلك مجاملة، ولا نتيجة ترشيح من أحد وإنما عن استحقاق متكامل في جوانبه الإقتصادية والتنموية والحكامية والسياسية من هيئة لا تقدم جوائزها مجاملة، ولا تعتمد في اختيار المستحقين لجوائزها على رأي وتقييم المعارضات في العالم الثالث حيث الغياب التام لأية مظنة للموضوعية والتوازن والتقييم النزيه، وقد حجبت المؤسسة من تلك الجوائز أكثر مما قدمت لانعدام شروطها ومواصفاتها المتستمدة من منهجها وتقييمها هي لا من شروط ومواصفات الآخرين.. أما إذا لم تمنح له ف " ما كنا ركوبا ولا طحنا "، حسبه تلك الجوائز المعنوية الكبيرة التي استحقها على بلده وشعبه حتى وإن لم يطلب على جهوده في خدمتهما جوائز.