تبتل في محاريب الجمال / أحمد فال ولد الدين

altكنتُ أضيق ذرعا بكثرة شكوى الأدباء يَدَ الدهرِ من غياب المماثل وانعدام الجليس المشاكل. إلا أن أياما قضيتها في كيب تاون (أو قل في شعب بوان) جعلتني أعيد النظر في موقفي من شكوى مشايخنا..ابتداء من المتنبي وانتهاء بزكي مبارك.

كان المتنبي يتململ منشدا: إذا أردت كميتَ اللون صافية * وجدتُها.. وحبيب النفس مفقود! وذاك تصوير دقيق لحالة النفس الإنسانية المتعلقة بالجمال عندما يتوفر لها المشتهى المادي المحسوس لكنها تظل معلقة تئنُّ..حانَّة إلى متعة عقلية لا يمكن أن تحصل عليها إلا بوجود الأديب المصاحب المساعد على قنص الخيال الشارد وتملي الجمال المحتجب عن عيون المتطفلين.
وجدتُني أدور في جنبات مدينة كيب توان متمليا جمالا يندر وجوده في أي بقعة على البسيطة. كنت أرمق المحيط الأطلسي يحتضن أخاه الهنديَّ احتضان صبًّيْن التقيا بعد فراق ماحق. وعلى حافة الشاطئ يقف جبل راسخ ( اسمه “تيبل ماونتن”) تكسوه الألوان البهية وتعلو هامته غيوم كأنها عمامة شيخ يسبح لله الواحد القهار. سمعت أمواج الأطلسي تهمس:
أأنت من الركب الذي داعب أطرافي ردحا من الزمان ثم اختفى إلى أبد الآبدين:
همُ أقامو سكارى هاهنا زمناً..* فإن رضيتَ بسكرٍ هاهنا أقمِ!
اقرأ على الوشل السلام وقل له * كل المشارب مذ هجرتَ ذميم
بعد هنيهات ضقتُ وخبثتْ نفسي وشعرت أن الأمر أكبر مني بكثير. فالجمال والوجد عندما يهجمان فلهما سطوة يصعب أن يتلقاها المرء وحيدا..لذلك ناح نوح وصلب الحلاج ورقص الصوفية قديما وشق عشاق الجمال الجيوب وتاهو في الفلوات رغم الرزانة والزكانة والمكانة.
التفتُ فلم أجد معي إلا رفيقيّ. وهما- على طيبتهما- رجلان غير عربييْن…أبعد ما يكونان عن فهم العوالم التي كنت أتملى… حوقلت مترحما على ابن التلاميد التركزي الذي كان يردد وحيدا في ليل باريس:
شيخ من العرب العرباء ليس له * منها نديم ولا ردءٌ ولا جلساء
نزلتُ هرولة من قمة الجبل مثل مدمن مخدرات حانت نوبته. فتحت السيارة وأخرجت “سلاح المؤمن”..أو ديوان أبي الطيب وبدأت أرتل..
ليالي بعد الظاعنين شكول* طوال وليل العاشقين طويل!
مالنا كلنا جو يا رسول * أنا أهوى..وقبلك المتبول!
أتيت على القصيديتن لكن شعر المتنبي لم يؤت أكله. بدا مفعوله شبيها بالمضاد الحيوي عندما يتعود عليه الجسم فيفقد مفعوله. التفت يمنة ويسرة محملقا متأملا في ملكوت الله الممتدة أمام ناظري..وتمتمتُ:
نظرتُ بصحراء البريقين نظرة * حجازية لو جُن طرفٌ لجنتِ
ترحمت على مشايخنا وأدركت أنهم ما ذوموا انعدام الشكل تكبرا بل ضرورة.
شر البلاد بلاد لا صديق بها * وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
سلامي لكل من تستفزه حمرة الشفق والعيون النجل وتنهدات الأمواج. تحياتي لكل من تستعبده الكلمة الجميلة…ويملأه الليل شوقا إلى عوالم لا يعرف كنهها.. سلامي لأحبة في بلاد منكوبة اسمها…موريتانيا.. سلامي لأبي سعد، وإبراهيم وصلاح، وإسحاق…. وآخرين.

1. يونيو 2009 - 10:50

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا