يتخاصم الناس لأنهم متفقون ويتخاصم الناس لأنهم مختلفون ،كما ذهب إليه العقاد الذي حاول حصر أسباب الكراهية في نظرية لم تكن لتظهر لو عامل كل إنسان غيره بما يحب أن يعامله به غير.
لم يكن التخاصم ليستمر لو عدل الرعاة وقنعوا بمقامهم البعيد عن أوحال ظلم الرعية ولزموا الزهد والقناعة ،غير أنهم تفرقوا طرائق قددا يقيم بعضهم العدل وبعضهم يفرط فيه ،وبعضهم ينزل إلى مستوى الرعية مستغلا تخاصمها لجلب منافع له ،فيضرب بعضها ببعض ويؤجج الصراع حتى تشتغل عنه ويستأثر هو بكل المنافع ،ومن يكشف حقيقته أو ينكر عليه يجازيه عقابا مرعبا.
وإذا حل الرعب محل الثقة التي يجلبها العدل ،يفقد الراعي مبرر وجوده ويكون سلطان هلك يتخاصم مع كل الرعية التي ظن أنه كاد لها بما يضمن بقاءه نائما على رؤوسها . المكيدة المذكورة وظف بها كل قسم من الرعية في دور من أدوار حمل سريره الثقيل ،ومع هذا يوهم كل فريق أنهم يقتربون من تحقيق هدفهم ونصيبهم من الحقوق والعدالة حتى لا يفقدوا الأمل وتخور قواهم ويتوقفوا عن دفع الضرائب والمغارم الأخرى ،أو تسول لهموا أنفسهم أن ينقلبوا عليه.
بتلك التصرفات يعمل على خرق القواعد التي يقوم عليها المجتمع المتفق ضمنيا على أن لا يضرب أحد أحدا ولا يبتر إربا منه ولا يقتله خوفا من أن يفعلها به غيره ،ونفس القاعدة تنطبق على حرمة المال والعرض،ولا يحيد عنها إلا شاذ أخلاق يسعى إلى تدمير الاجتماع البشري داخل الدولة ،تلك الدولة التي تفقد مبرر وجودها لو نجح الشواذ في تعطيل نفاذ القوانين المكرسة لمواجهتهم .
وإذا وصل مرضى الشذوذ إلى سدة الحكم سعوا إلى حماية أنفسهم في مواجهة المجتمع العدو،ما يحتم عليهم الارتماء في أحضان علاقات الدم أو الاحتماء بعصابة لها نفس الشذوذ.
ومادام التاريخ شاهد على فشل جميع المحاولات البدائية الرامية إلى قيام دولة على أساس العصبية والعرق ، ومادام الدكتور)أمون Ammon ( فند ما ذهب إليه أرسطو طاليس من أن الله خلق فصيلين من الناس أحدهما زوده بالعقل والإرادة هم اليونان والآخر زوده بقوى الجسم وهم البرابرة ، ما جعل البرابرة عبيدا بالفطرة لليونيين يستغلونهم كالحيوان ولهم حق نقص أعدادهم بالقتل إذا تكاثروا بشكل وبائي يهدد الدولة ،وبه فشلت دول اليونان التي تأسست على قواعد قانونية غير عامة ولا مجردة ،تقول : بأن هناك من خلق للحكم وهناك من خلق للطاعة ،وتجاهلت أن الجميع متساوون عند الخالق يتفاضلون عنده بالتقوى فقط.
ولما فشلت مدنية اليونان التي تأسست على أقوال أهل الفلسفة ،وظهر نبي الإسلام الذي أكد على حرمة الدم والمال والعرض ،وصار كل إنسان راع ومسئول عن رعيته ، وبشر بشريعة لا تميز ضد عرق ولا لون ،ما جعل قوانين الدول الحديثة تقتبس منها رغم هجرها من قبل أغلب المسلمين في عالم اليوم.
وللأسف لم تقتبس تلك القوانين جوانب الشريعة التي تربط الإنسان بالخالق،كما أنها لم تقتبس القواعد التي تضبط توظيف الإنسان لأعضائه التي لم يخلقها والتي منح فقط حق استغلالها في نطاق معين ،ما جعل تلك القوانين قاصرة في مواجهة مشاكل المجتمع المتجددة .
وفي موريتانيا تعتبر تلك الشريعة هي مصدر الأخلاق والقانون .
ومعروف في جميع العالم أنه لا يمكن لأي كان أن يسن أخلاقا تخصه أو دين يخصه أو قانون يخصه ،لأن الأخلاق والدين والقانون هي الرباط الذي يربط الشعوب ،أي أنها عوامل وحدتها الوطنية .
وفي دول كثيرة نجد القانون وحده هو سبب الوحدة فيها رغم ما فيها من اختلاف الديانات وتنوع العرقيات واختلاف العادات .
وإذا اتحدت عوامل الأخلاق والدين مع وحدة القانون فإننا نكون أمام أسباب تضامن قوية تجعل الدولة غير معرضة لأي خطر ما لم تستفحل ظاهرة الشذوذ عن الأخلاق والدين والقانون بشكل وبائي يطلق يد ظلم الشواذ في الناس ،عندها تزول الدولة لأن مبرر وجودها هو إقامة العدل .
وفي هذه الأيام يكثر الحديث عن الوحدة الوطنية وعن الكراهية ،وقد بينا معنى الوحدة الوطنية في السطور السابقة ،كما بينا مصادر تلك الوحدة التي تمنع الكراهية وتمنع أيضا جميع مسببات الكراهية كالظلم والبغض والحسد .
والوحدة الوطنية ومصادرها السالفة في موريتانيا تحميها الدولة بموجب الدستور كما تحميها مكونات المجتمع وخاصة شريحة الحراطين التي تمثل الهوية العربية الإفريقية لموريتانيا ،فهم عرب إن أردتهم عربا وأفارقة إن أردتهم أفارقة،ووجودهم أحد دعائم الوحدة الوطنية ،ما يشهد عليه قيام مسعود ولد بولخير وبيرام ولد الداه بإصلاح ذات البين بين القوميين البيضان والقوميين الأفارقة ،ما يشهد عليه جمعهم لهم في حزبي التحالف والصواب الذين لم تنكس مبادئهما بالاندماج المذكور ولم تطالب حركة افلام بذلك رغم قدرة الأغلبية الوافدة على فعل ما أرادت في إطار ديمقراطي ،وهو ما يفند أيضا التهم القائلة بوجود علاقات لحركة افلام بأجندة مشبوهة..
الوحدة الوطنية لا ينبغي أن تعرض إذا في البورصة ،وذلك لقداسة الدين وسمو الأخلاق وهيبة القانون .
وحان لجوانب القانون الموريتاني المعطلة أن تفعل ،وحان للأحكام القضائية المبنية عليه أن تنفذ ،وحان للمظلوم في ظله أن يجد حقه ،وحان للمسابقات القائمة عليه أن تكون شفافة وعادلة ،وحان للضرائب في ظله أن تكون منصفة تراعي ظروف الناس ومعايشهم،وحان للفساد أن يتوقف ،وحان وقف نهب المال العام وتهريبه إلى الخارج.
وكل هذا أطالب بإدراجه بين شعارات مسيرة الأربعاء ضد الكراهية ،حتى لا تتحول هي بدورها سببا في زيادة الكراهية ،وتكون مجرد مناسبة لتبادل الاتهامات ،كتلك التي رد بها الوزير سيدي محمد ولد محم رئيس حزب الإتحاد من أجل الجمهورية على المعارضة التي رفضت تلبية دعوته..
وإذا تحققت العدالة شفيت القلوب من أمراضها وزالت كراهية المظلوم للعزيز الذي ظلمه ، وتوقف حسد الذليل للعزيز ،وصار كلاهما يميز بين الغبن والظلم والحسد ،كما يميز بين من عليه الكراهية ومن ليست عليه.