هذه واحدة من اللحظات التي وجدتني أعجز فيها عن الكتابة..فقد أحسست أن التعبير بكلمات مرصفوه ضرب من العبثية. لقد كان يوما من أيام الله! وجدتني وسط غرفة أخبار قناة الجزيرة أتابع الأخبار الواردة عن زوال دكتاتور قطرة قطرة!.
لقد كان يوما من أيام الله!
تجسد الدكتاتور أمامي وأنا أتلقط أخبار زوال حكمه وكأن له تسعين نفسا....
لا نكتب عنه خبرا إلا محوناه لنضع مكانه آخر لتتابع الأحداث...
ذهل كل الزملاء من حولي عن أنفسهم...وكنت أول الذاهلين!
إنها أروع ثورة ضد أسوإ مستبد...
كان خيالي يضج بصور عجيبة..
كنت أتخيل الشابي طائفا قبل عشرات السنين وهو يدس في كل ركن من شوارع تونس
صرخته المشهور...
"إذا الشعب يوما أرد الحياة".
كنت أراه رأي العين وهو يدسها في مقاهي تونس والقيروان فتتلقفها أيدي النسوة
وتخفيها،لتضعها الجدات في القهوة وترسلها مع الطيور المتجهة شمالا وجنوبا...
رأيت صبية القصرين وهم يدسونها في حقائبهم المدرسية..
رأيت البوعزيزي وهو يطل من قبره مؤشرا للجماهير الزاحفة أن "اقدموا"...فما ثم
المجد والثورة ومراتع الخلود...
كان حلما من الأحلام..
فأنا بحمد الله تعالى ما كرهت شيئا في حياتي كرهي للظلم والظالمين....
كانت غرفة الأخبار خلية تتراقص بنبض التاريخ..
حقا، إن الخبر الصحفي هو النسخة الأولى من كتابة التاريخ....
كنت أقفز ولا أعرف ما أفعل..
كنت أتصل على كل تونسي أعرفه...
كان من أول من كلمت رفيقنا النبيل الدكتور منصف المرزوقي...
جاءني صوته من باريس كأنه تحفة قادم:
"لم أنم منذ فترة لكنني لا أشعر بالتعب"...هنأته من كل قلبي فتساقطت أولى دموع
رحيل مستبد!
نعم/ تساقطت..
تلك فطرة بغض الظلم يوزعها الله على قلوب العباد...
وقد بدأت تساقطت اللحظة فأعتذر عن مواصلة الكتابة..