كثيرا ما تتم ممارسة عملية شواء عقلية لفكرة فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ؛ بل و يتم اعتبارها في الغالب الأعم بدول الجنوب و في أحسن الأحوال تعبيرا عن الآخرة بمفهومها الديني؛
ولكن القارئ الجاد لفكرة نهاية التاريخ يلاحظ أنها مقاربة فكريا لمرحلة الوعي بالذات عند كارل ماركس كما أنها تفسير للتحولات الكبرى التي تشهد على انكسارات تاريخية في الأنساق المجتمعية.
و للمتابع البسيط لتحركات الساحة الموريتانية أن يدرك أننا فعلا وصلنا إلى مرحلة نهاية التاريخ في النسق الاجتماعي بمفهومي الوظيفي و دخلنا مرحلة الابدالات _(على لغة أوغست كونت)_ الكبرى في هذا المجتمع الذي بات بحاجة إلى تحول كبير وانكسار تام يشكل قطيعة (نهاية) لتاريخه الماضي و الدخول في مرحلة جديدة كليا.
إن نهاية التاريخ في أي مجتمع تأتي عندما يصبح النسق الاجتماعي عاجزا كليا عن إيصال الأوكسجين إلى جميع أطرافه لكي يستمر عملها بالشكل المطلوب، هذه الحالة بالضبط يجسدها ما نعيشه اليوم في تاريخ المجتمع الموريتاني الذي أصبح أمام أسئلة كبرى تؤكد أن ذلك التاريخ الجامع لأرض البيظان أو بلاد شنقيط أصبح تاريخا بلا صلة مع الواقع المعيش، أي وصل إلى نهايته وأصبح تاريخا متخارجا مع الواقع، كما يدعم هذا التوجه حالة تشتيت الموحد "سابقا" التي يعيش المجتمع إضافة إلى انهيار الثابت المجتمعي المتمثل في ما هو قبلي .
فهوية البيظان لم تعد تعني ذلك الكل الحساني بعرْبه و ازْواياه ولحمته بكاملها، بل إن كل تلك المكونات أصبحت تستنكر ذلك التعميم التأريخي و تريد كتابة تاريخها الخاص أو على الأقل الحصول على مكانها المناسب في الماضي و الحاضر كدعوى صريحة لإعادة كتابة التاريخ لكي يكون تاريخا جامعا موحدا وليس تاريخ الأقوى الذي كتبه في زمن وسياق مختلفين بحكم انتقال القوة من مركزية السيف والقلم إلى مركزية المأسسة و المواطنة.
يبد أن نهاية التاريخ الاجتماعي هي مسألة غير مستساغة بعد في موريتانيا و لكن الثورة الأشهر في التاريخ و التي كان شعارها (قتل آخر ملك بأمعاء آخر قسيس) كانت تعبير بطريقة فرنسية عن نهاية تاريخ الإقطاع الثيوقراطي و الحكم باسم الرب و الانتقال إلى مرحلة العقد الاجتماعي. إلا أن المطالب الموريتانية تختلف و إن كان التشابه الأهم هو في حالة الخروج من ظل هيمنة ما يظهر في موريتانيا أنها ستكون حول تجاوز القدامة المجتمعية ببث الحياة في دولة المواطنة التي يبدو انها هي المرحلة المباركة الموالية في الطريق نحو دولة الرفاه المؤجلة بحكم الظروف الحالية، و إن كانت مؤشرات الغاز تقول إنها قادمة، و لكن ذلك يجبرنا حتما على إقامة جنازة هذا التاريخ الذي لا يلقى أي اتفاق و خلق تاريخ جديد يكون قد دخل إطار العمل قبل استخراج أي قطرة من الغاز و إلا فإن الشركات الكبرى ستكون الرابح الوحيد من ذلك الرفاه القادم من الجنوب.
بطبيعة الحال عندما قدم فكوياما نهاية التاريخ كان ذلك تنظيرا سياسيا لمرحلة غربية خالصة و في تقديمه لمرحلة الوعي بالذات كان ماركس يغازل أحلام بروليتاريا لم تنتهي عذاباتها على الإطلاق، و حتى كونت حين نظر للإبدال لم يكن يدري أن المصانع و التطور التكنولوجي سيكون هو الإبدال القادم للمجتمعات، إلا أن فرصتنا في موريتانيا للاستفادة من كل تلك الروافد هي معرفة أن الدخول في الجدل حالة طبيعية و خاصة إذا كان هذا الجدل حول تاريخ قال فيه عبد الرحمن بن خلدون كل ما يمكن قوله، ولكن لكي نستطيع الانتقال فعلا إلى مرحلة الأمة ذات (التاريخ و الماضي المشتركين ) علينا أن ندرك شيئا بسيطا قاله الأقدمون أنفسهم (طير في اليد أفضل من عشر فوق الشجرة) و لهذا المثل له صياغة حسانية لطيفة لم تسعفني بها الذاكرة؛
ما أريد قوله من خلاله أن الدفاع عن تلك القدامة التاريخية و جعلها طاحونة صراع أولى منه بألف مرة الدفاع عن حاضر التعايش و التكامل بين من يشغلون الواقع اليوم لأن التاريخ كما يقول محمد المختار الشنقيطي إن لم يعطي الخبرة و العبرة لا خير فيه.