العام 2019 ستطوى معه صفحة وتفتح أخرى في التاريخ السياسي لموريتانيا بعد أن أعلن الرئيس الحالي تخليه عن فكرة الترشح لمأمورية ثالثة انسجاما مع نص وروح الدستور.
وللتاريخ تحسب للرجل وهو يغادر نقطتان الأولى تتمثل في قطع العلاقات مع الصهاينة ورثة وحفدة قتلة الأنبياء وشذاذ الآفاق، الغاصبين للأرض المقدسة ومسرى رسول الله صلى عليه وسلم، أولى القبلتين وثالث الحرمين باب الأرض إلى السماء في معراج رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام إلى السموات العلا وسدرة المنتهى، مهد الأنبياء ومهبط الرسالات وأرض المحشر والمنشر والرباط، مهوى الأفئدة فلسطين القدس أم القضايا الدولية وقضية العرب والمسلمين الأولى. الثانية تتمثل في تأسيس منظومة للحالة المدنية لطالما كانت البلاد في أمس الحاجة إليها ومنذ الاستقلال.
الاستحقاق الرئاسي المقبل سيتيح فرصة لانتخاب رئيس جديد، يأمل أهل موريتانيا أن يكون ترجمة لإرادتهم الحرة.
أهل موريتانيا مطالبون بأن ينحوا جانبا العصبية القبلية والجهوية فليست هي التي ستعبر بها البلاد إلى المستقبل. "ليس منا من دعا إلى عصبية" كررها رسول الله صلى عليه وسلم "ثلاثا"، بل إنها سبب في زوال الدول وما تحطيم التراتبية الوظيفية وتقديم الولاء على الكفاءة والمزاجية على المنزلة والمحاباة بأشكالها المختلفة إلا ثمرة من ثمار الحصاد المر للعصبية الموبقة.
الدولة كائن حي بحكم تركيبتها المؤلفة من العناصر الثلاثة الشعب، الأرض، والحكومة، وقد ينعكس عليها ما يعتري الكائن البشري من ضعف واختلال في التوازن وحكمة في التعامل مع البيئة البشرية والطبيعية "إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" حديث صحيح.
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أحلام الرجال تضيق.
يحدث ذلك في ظل التبرم من الآخر وغياب الرؤية الجامعة الشاملة.
أهل موريتانيا مطالبون بأن يعقدوا النية والعزم على الخيار الذي يخدم التنمية الشاملة، يخدم المستقبل والهوية والانسجام والتداول السلمي السلس على السلطة ويخدم السلم والوئام في كنف دولة الحقوق والواجبات، ذلك بأن الاستقرار في حد ذاته رأس مال لا يعوض.
الناس يريدون رئيسا تذكر خصاله بقولة عمر الفاروق رضي الله عنه "لو أن بغلة عثرت بأرض العراق لخشيت أن يسأل عنها عمر لما لم يسو لها الطريق".
أين نحن من منظومة تبديد العام والخاص لحساب التهافت على الإسراف والتبذير على مسلسل الخصومات السياسية في رحلة الشتاء والصيف على حساب سياسة الإصلاح والمصالحة والرحمة؟ فمن للفقراء والمساكين واليتامى والأرامل والمرضى في مستشفيات الداخل والخارج، ضحايا الإهمال وأخطاء التشخيص، في غياب قوانين المساءلة الطبية، ضحايا العجز عن التداوي، ضحايا الأدوية المغشوشة والمعلبات المنتهية الصلاحية، والحوادث المميتة على الطرق المهترئة.
المنظومة التعليمية الناجحة هي أساس تقدم الشعوب فأين نحن من التردي المزمن والمتفاقم لأوضاع المعلم والتعليم في جو تغيب فيه التربية عن التعليم وأين نحن من الصعود المتصاعد في نسب البطالة والفراغ بين الشباب المتعلم وغير المتعلم في ظل الفصل بين النمو الاقتصادي والرقي الاجتماعي وتغييب الربط بين الأهداف والحاجات باعتبار الإنسان غاية.
الناس يريدون رئيسا يرحم الصغير ويشفق على المريض والضعيف ويوقر العالم والكبير وينتصف من القوي ويخدم الرعية ويرعى وينشر الدين. "فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله" وكما ورد عن سيدنا أمير المؤمنين أبي حفص رضي الله تعالى عنه.
رئيس وهو يزاول مهامه يستحضر يوم الوقوف أمام رب العالمين "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد" آل عمران/ الآية 30.
لقد مضى على بلدنا ما يزيد عن نصف قرن من الزمان وكل سنة نشهد الرايات والأعلام والبيارق تملأ الشوارع والساحات وتعلو البنايات مرفرفة احتفاء بذكرى الاستقلال عن فرنسا وما زلنا نأكل ونشرب ونلبس مما يزرع ويصنع غيرنا، فإلى متى؟.
نحن بلد غني، زاخر بالخيرات، نملك أكبر منجم مفتوح للذهب على وجه الأرض ولدينا ثروة معتبرة من المعادن الأخرى منها ما هو مستغل ومنها ما يوشك أن يستغل وثروة سمكية هائلة ونهر هدار بالمياه العذبة وباستطاعتنا في بضع سنين وبتوفر الإرادة والتخطيط تجاوز مستوى الاكتفاء الذاتي في المحاصيل الزراعية، علما بأن الزراعة هي أساس الصناعة وسكان لا يتجاوز عددهم الثلاثة إلى الأربعة ملايين.
فلما لا نرى آثار هذه النعم على العباد والبلاد؟
لقد خفت بريق الإشعاع الحضاري للبلاد منذ عقود حينما استقالت الدولة عن دورها في نشر الثقافة والعلوم العربية والإسلامية في الإقليم الغرب إفريقي والمحيط الجغرافي وفقدت بذلك تأثيرها السياسي والدبلوماسي ومرجعيتها ووزنها الإقليمي والعربي والإسلامي.
وحينما تفقد الدولة روح المبادرة والإبداع في سياساتها العامة تجاه الجوار الجغرافي والإقليمي خصوصا، فإنها تخسر بذلك مجالها الحيوي (المقصود أبعاد ومساحات النفوذ) حينها يصبح التساؤل مشروعا: إلى أين نحن ذاهبون؟
إنه تساؤل يقود للتفكير في مراجعة آليات صنع واتخاذ القرار وبما يعطي نصيبا لمراكز الدراسات المختصة في وضع السياسات المختلفة والبديلة التي تخدم الأهداف والغايات الوطنية، وحتى لا يجد البلد نفسه خارج سياق التاريخ بماضيه ومستقبله.
قال المعصوم عليه الصلاة والسلام "كن عالما أو متعلما أو معينا لهما ولا تكن الرابع فتهلك". و "الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله"، ذلك بإن الخير هو ما يصلح للسياسة.
لقد اقتضت الحكمة الإلهية في سنن التغيير اشتراط تهيئ النفوس لمثل هكذا تحول، فقال جل من قائل: "أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" من الآية 11 / الرعد. "وكما تكونوا يولى عليكم" حديث صحيح.
البلد على عتبة مرحلة مقبلة سنكون معها على موعد مع الكثير من التحديات الخارجية والداخلية، اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية، فهل سنقلب الصفحة؟.
إن كنا في حاجة إلى رئيس مميز فنحن كذلك بحاجة إلى كوكبة من القادة السياسيين والإداريين والاقتصاديين والتربويين والصناعيين والخبراء في شتى المجالات التنموية بعيدا عن المحاصصة الحزبية أو الجهوية أو القبلية أو العرقية وفوق ذلك علماء ربانيين ينبرون للفتن فيخمدونها ويعمدون للهمم فيشحذونها ولمكارم الأخلاق فيحيونها ولمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبذرونها وينثرونها، استنهاضا لمكامن الخير والإيمان والعزة والإيثار والإقدام في وجدان الأمة وحتى تستطيع البلاد الانطلاق بعد كبوة و العبور إلى بر الأمان في مسيرة النهضة والبناء والتنمية بروح وثابة وبعزيمة وتوكل وإصرار.
عود على بدء، كم نتمنى ويتمنى أهل المغرب العربي أن يعود الإقليم كيانا واحدا موحدا شامخا "كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا كلما اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، رافدا لقوة الأمة ومنعتها ومبشرا بولوج آفاق جديدة ومشرقة كلها خير ورفعة.
محمد لحبيب سيدي محمد معزوز
*ـ عقيد متقاعد