من نافلة القول أن نقول بأن التعليم هو أولى لبنات الإصلاح المجتمعي باعتباره الركيزة الأساسية للنجاح والتفوق ، كما أنه السلاح الأقوى لتحقيق أمل الأجيال القادمة التي يمكنها من ضمان وصناعة مستقبل ينعم ذووه بالرفاهية والحرفية في التعاطي مع تحديات الحياة وماتواجهه البلدان والشعوب من مناخ أمني واقتصادي متقلب ، وهذا ما أثبتته التجارب التاريخية عبر الزمن ، حيث نجد أن بعض الدول ذات المساحة المحدودة والموارد الإقتصادية غير الضخمة حجزت — بالتعليم — لنفسها مكانا مرموقا بين نظيراتها في العالم .
فدولة سنغافورة — مثلا — لاتقاس مقدراتها الإقتصادية بموريتانيا ، لكن البون شاسع في مؤشر جودة التعليم ، وذلك أن الحكومة السنغافورية اعتنت عناية بالغة بالتعليم ترجمتها بتخصيص خمس ميزانية الدولة لهذا المجال ، الأمر الذي أدى إلى أن يصبح النظام التعليمي السنغافوري محط أنظار الجميع بنجاحاته وتحقيق طلابه لمراكز متقدمة في المسابقات الرياضية العالمية . وهكذا الحال بالنسبة للسويد وفنلندا واليابان التي تفخر أن نسبة الأمية فيها ( 0.0% ) .
في خرجته الأخيرة دعا رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية ، الشعب إلى ضرورة الإعتناء بالتعليم مشددا على أن الدول لاتبنى بالجهل والتخلف ، ولعله غاب عن ذهن الرئيس في خطابه بمناسبة مسيرة الحكومة ضد خطاب الكراهية : " أن أغلى هدية يمكن لقائد أن يهديها لشعبه ، هي التعليم ..!! " ، فمن المسؤول إذا ؟؟ فلوكان التعليم معافا لما كانت الكراهية ولما عرفنا إلى التمييز الطبقي العرقي السلبي سبيلا ، ولوكانت العدالة الإجتماعية والقانونية والإقتصادية ...موجودة لماكان من بيننا قوم ماهرون في فن " المعمار " وبلدنا لايزال يعاني الجهل والتخلف اللذان لاينفكا يقطعان أوصال هذا الوطن البائس ..! في بلدنا أشبال يطاردون أحلامهم في كل لحظة ، أرملات يتساقطن في الطرقات حرصا على إيصالهم للمدرسة مع إشراقة كل يوم تنشدن فيه تأمين رعايتهم واحتضانهم بين لداتهم من طينة ذوي الدخل " ألا محدود " .
إن عدم تطلع الدولة بعيون هؤلاء المحرومين ، وبنظراتهم البريئة المسافرة في شعاب قسمات وجوههم الشاحبة ، سيرفع من تعداد نسب الطلاب الذين يتركون الدراسة هربا إلى جحيم البطالة ودروب الجهل والضياع ، بعد أن رمتهم المدارس العمومية في الشوارع ، ووقفت فوضوية المؤسسات الخصوصية — الربحية — في أغلبها أمامهم حجر عثرة لايضمحل معلمه إلا باستحضار الدولة حاجتهم غدا إلى العلم والتعلم ، في بلد لم يشهد منذ تشكل كيانه الرسمي أي تحول نحو التعليم الأفضل ، فالمناهج ضعيفة وطرق التدريس تقليدية ، ( لاتوجد برامج للتعليم الرقمي ، ولا الإلكتروني الحديث ، والنظم التعليمية إذالم تستفد من تقنية التكنلوجيا لايمكن أن تساير العالم في استمراره وتقدمه المتسارع ..) وهو الشيء الذي جعلنا نتذيل قائمة الدول الفاشلة في تحسين منظومتها التعليمية .
لم تضع الدولة في الحسبان حقيقة أن التعليم أحد العوامل الحاسمة في تطوير القوى العاملة لتحقيق الأهداف الإقتصادية في حال لعبت الحاجات الإقتصادية في بلدنا دورها بتحديد معالم سياسة التعليم ، وأهمية الدور الذي ينبغي أن تلعبه النخبة والنظام الحالي الذي لم يكن بمعزل عن الأنظمة السابقة ، وذلك ( بإعلان الرئيس 2015 سنة للتعليم ، إلا أن جهد الحكومة بقي حبرا على ورق ، حيث كانت نتائج نسبة النجاح في الباكلوريا لنفس العام 5% ) . فبهذه النتيجة يمكن أن نحاول البحث عن الأسباب الجذرية لأزمة التعليم ، وتشخيصها على ضوء 40 سنة من السياسات العشوائية المفرغة الحلقات منذ وصول العسكر للسلطة عام 1978 .
مع نهاية شهر دجمبر من كل عام ، عادة ما تجري الوزارة المعنية مسحا شاملا تحاول من خلاله — بالتعاون مع مصالحها الجهوية المختصة — الحصول على صورة دقيقة عن حجم العجز المسجل في مجال التعليم ، حيث تتضمن التقارير الفنية مجمل النواقص سواء المتعلقة منها بالطواقم التربوية أو المباني المدرسية ، بالإضافة إلى الميزان العام لوضعية ماهو موجود وطلب ماهو مفقود ، لكن وللأسف — فإن هذه التقارير — وبالرغم من أنها تخضع في أغلب حالاتها لإلقاء نظرات فاحصة من لدن مديري المدارس والمفتشين وحتى المديرين الجهويين ... بالرغم من ذلك كله فإن هذه التقارير لاتفي بالمطلوب ، إذ تبقى الحاجة إلى المدارس وإلى المعلمين كائنة ما بقي التفريط في مصير أبنائهم ، وإن شملتهم مهنية المديرين الجهويين بتشخيص واقعهم ضمن الإحصاء السنوي للتعليم ، كان مبلغ جهد الوزارة أن ترمي تلك التقارير — المليئة بالنواقص — في سلة المهملات بعد أن تأخذ النتيجة النهائية لتقديمها كرقم نجاح أو إخفاق في مناسبات رسمية ..! وفي هذا السياق تعالت صرخات المعلمين والأساتذة وكل العاملين في الميدان التربوي مطالبة بتحسين ظروفهم المادية والمعنوية ، وإعطاء العناية اللازمة من تكوين وتأطير المدرسين ، والنهوض بالبنى التحتية للقطاع ورفده باللوازم الضرورية . النقابة الوطنية للمعلمين ركزت في مؤتمرها الأخير على المطالب التالية :
— مراجعة راتب المعلم على ضوء التضخم الناتج عن ارتفاع الأسعار وانخفاض مستوى المعيشة وتدني قيمة العملة الوطنية .
— التطبيق الفوري لاتفاق 10 ابريل 2011 ، وخاصة البنود المتعلقة بإصدار قانون الأسلاك وفقا لماتم الاتفاق عليه في الإجتماع الأخير للمجلس الأعلى للوظيفة العمومية والإصلاح الإداري .
— وضع معايير شفافة تساهم في ضبط وتنظيم التعليم الخاص ، وتعنى بالبرامج وبوضع نظام جبائي يتناسب مع دخل وطبيعة عمل المدارس الخاصة .
— جعل الأشخاص ذوي الكفاءة والخبرة في مراكز القرار بالقطاع ومنحهم الصلاحيات اللازمة .
— العدالة في توزيع منح القروض والقطع الأرضية ، واللجان المشرفة على مراجعة علاوة البعد والطبشور والنقل ...
— صرف العلاوات في الوقت المناسب مع زيادة الرواتب واستحداث علاوة تحفيزية للعاملين في المناطق الريفية البعيدة .
— مراجعة شبكة الأرقام الاستدلالية المتعلقة بالرواتب مع توسيعها للتشجيع على جودة الأداء المهني .
إلى غير ذلك من النواقص الكبيرة في مجال البنية التحتية التي يعاني من هشاشتها القطاع ، حيث يدرس العديد من التلاميذ — خاصة الموجودين في الداخل — تحت الخيم والأكواخ ، كما تسجل العديد من المدارس عجزا متفاوتا في أعداد المدرسين ، فإصلاح التعليم في موريتانيا معادلة صعبة لاتفكها الوصايا والخطب المنبرية الراجلة نحو حياض الكبريت الأحمر ..!!! .