أنا من المولعين بالقاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، لأني أرى فيه من الخصال ما لا أراه في غيره من معاجم اللغة. فهو يعرف لك الكلمة عادة تعريفا يكاد يكون «جامعًا مانعًا» على لغة المناطقة.
لكنني بالرغم من ذلك أقر بأنني لم أرتح لتعريف رأيته له عندما تكلم عن كلمة «الجمال». يقول عند مادة جمل: «والجمال الحسن في الخلق والخلق، جمل ككرم فهو جميل كأمير وغراب ورمان»، إذ أنني أرى أن هذا التعريف لا يعطي الجمال حقه، وليس ذلك نابعًا من عجز لدى الرجل في التعبير، إنما سبب ذلك هو تعذر تعريف «الجمال» نفسه، فالجمال فوق التعريف وفوق الحدود يتمنع تمنع المحبين على أن “يُحدَّ” أو توضع عليه متاريس تحده وتمنعه من أن يتجاوزها، فهو بهذا المعنى غير قابل للتعريف. فالأفضل أن نقول: «الجمال هو الجمال» حتى ولو فسرنا الماء بالماء فذلك اعتراف بالقصور عن تعريف هذا المعنى الغائر العصي على جدود متاريس اللغة.
وهناك عالم وأديب من عمالقة القرن المنصرم وقع في الفخ نفسه، هو عباس محمود العقاد، فبالرغم من أنه فكر في الجمال طويلا وكتب عنه بعض النتف، وأعرب طول حياته عن أمنيته أن يؤلف قبل موته كتابا بعنوان «فلسفة الجمال» فإنه قال عندما أراد تعريفه وحده : “الجمال إشارة في أظهر عضو من الجسم – أعني الوجه – كانت ولا تزال تدل على فضيلة جنسية للمرأة أو الرجل”.
وقد رجعت إلى أحد القواميس الإنجليزية(..American Heritage Dictionary)عند هذه الكلمة فوجدت أن هناك تقاربًا في التعريف، وإن كان التعريف الإنجليزي أكثر تحديدًا، فقد ورد في القاموس:: «الجمال هو امتلاك خصائص تسعد الحواس وخصوصا حاسة النظر، أو هو مجموعة الفضائل التي تدل على تناسق في الشكل أو اللون أو هو الصدق والأصالة»، والتعريف تعيس هو الآخر، حيث إنه يتجاوز جمال الروح إلى حد ما. ونحن نرى أن أمثل طريقة هي أن نقتصر على نماذج طريفة من تعاطي بعض أسلافنا مع الجمال عموما.
النظر إلى الجمال
– دخل الإمام الشعبي السوق، فقيل له: هل من حاجة فقال: «حاجتي صورة حسنة، يتنعم فيها طرفي، ويلتذ بها قلبي، وتعينني على عبادة ربي».
– رأى رجل شريحا القاضي يجول في بعض الطرق فقال: «ماغدا بك»؟ فقال: «عسيتُ أن أنظر إلى صورة حسنة»!
– «وللجمال خاصية تجعل متمليه يشعربالميل نحوه وبالعاطفة»، وقد شرح هذا القول جعفر بن محمد فقال: «الجمال مرحوم».
ولكي تعرف كيف يربط أسلافنا بين «حب الجمال»، والتقى فانظر إلى هذا القول فهذا ذو دلالة عميقة: كان يقال: «أربعة تزيد في البصر: النظر إلى الوجه الحسن، وإلى الخضرة وإلى الماء الجاري، والنظر في المصحف».
وقد روى أبو عمر بن عبد البر بسنده عن المدائني عن عبد الله بن عمر العمري ( الزاهد)، قال: خرجت حاجًا فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلامٍ أرفثت فيه، فأدنيت ناقتي منها، وقلت: يا أمة الله! ألست حاجة؟ أما تخافين الله؟ فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا، ثم قالت: تأمل يا عمري، فإني ممن عناه العرجي بقوله:
أماطت كِساَءَ الخزّ عن حُرِّ وجهها وأدْنَتْ على الخدين بُردْاً مُهَلهْلاَ
من اللاّئي لم يَحْجُجْنَ يبغين حِسبَةً ولكنْ ليقتُلْنَ البريءَ المغَفّـلاَ
وترمي بعينيها القلوبَ ولحظِها إذا ما رَمَتْ لم تُخْط منهن مَقْتَلا
قال: فقلت: فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار، قال: وبلغ ذلك سعيد بن المسيب؛ فقال: أما والله لو كان من أهل العراق، لقال: اغربي قبحك الله، ولكنه ظرف عباد أهل الحجاز.
الخصم الجميل
ولشيوع حب الجمال في ذلك العصر، أصبح بعض ظراف الشعراء يتهم بعض القضاة العادلين بالقضاء جورا لكل جميلة وقد أورد أبو عمر قصة طريفة في هذا المجال فقال:
«خاصم الوليد بن صريع، مولى عمرو بن حريث، أخته أم كلثوم ابنة صريع إلى عبد الملك بن عمير، قاضي الكوفة، وكان يقال له: القبطي، لفرسٍ كان له فقضى لها على أخيها، فقال هذيل الأشجعي:
لقد عثرَ القبطيُّ أو زَلَّ زلةً وما كان منه لا العثارُ ولا الزّللْ
آتاه وليدٌ بالشُّهودِ يقودُهُـمْ على ما ادّعَى من صامتِ المالِ والخَوَلْ
يقودُ إليه كلْثُماً وكلاُمـهـا شفاءٌ من الدَّاءِ المخامرِ والخَبَلْ
فأدْلى وليدٌ عند ذاك بحـجةٍ وكان وليدٌ ذا مِراءٍ وذا جَدَلْ
وكان لها دَلٌّ وعينٌ كحيلةٌ فأدْلَتْ بحُسنِ الدَّلِّ منها وبالكَحَلْ
فأفْتنَت القبطيَّ حتّى قضى لها بغيرِ قضاءِ الله في مُحْكَم الطُّوَلْ
فلو أنّ من في القصرِ يعلمُ علْمَه لما اسْتَعملَ القبِطيَّ يوماً على عَمَلْ
له حين يقضي للنساء تَخَاوُصٌ وكان وما فيه التخَاوص والحَوَلْ
إذا ذاتُ دَلٍّ كلّمتهُ بحاجةٍ فهمَّ بأنْ يقضي تَنَحْنَح أو سَعَلْ
وبرّقَ عينيه ولاكَ لسانَـهُ يرى كل شيء ما خلا شخصها خلل
فبلغ ذلك عبد الملك بن عمير، فقال: ما لهذيل أخزاه الله؟ والله لربما جاءتني النحنحة أو السعلة وأنا في المتوضأ فأردها مخافة ما قال.
وبالرغم من أن القوم كانوا بهذه الدرجة من الكلف بالجمال وتتبعه فإن نظرتهم إليه لم تكن كما قد يتبادر إلى الذهن، فقد كانوا من العفة والخلق وحب الجمال «النفسي» بمكان، فلم تكن صورة «الجمال» عندهم حسية مبتذلة، ولا شيئية مادية، بل لعل عبد الله بن سليمان قد عبر عن ذلك في أبيات له بدقة حين قال:
القلبُ يُدرك مالا عينَ تدركُهُ والحُسْنُ ما استحسنتْه النفس لا البَصرُ
وما العيونُ التي تعمى إذا نظرَتْ بل القلوب التي يعمى بها النظرُ
لقد كان لمعظم فقهاء السلف وكتابه وأدبائه قلوب خفاقة، ونفوس مؤمنة تهيم بالجمال دون أن تنسى ذا الجلال، وتغرد على أفانين الحب دون أن تنزل إلى حمأة الأرض، بل كان حبهم الجمال معبرا عن أنفس مؤمنة مشرقة يحتل الجمال في دينها موقعا خاصا لأنه دين أتى به من قال: «إن الله جميل يحب الجمال».