في قلب باريس عاصمة فرنسا يقع مبنى عظيم يسمى البانثيون Le Panthéon كتبت عليه عبارة لطالما استوقفتني وأثارت في نفسي أحاسيس مختلطة من الإعجاب والتفكر، والعبارة هي هذه: للرجال العظماء، الأمة الممتنة Aux grands Hommes, la Patrie reconnaissante .
في نهاية تسعينيات القرن الماضي، وأنا طالب دكتوراه في فرنسا، كنت كثيرا ما أمر بمبنى البانثيون جيئة وذهابا في الحي اللاتيني الذي يحتضن جامعة السوربون العريقة، وأقول في نفسي هذه أمة تحتفي بالآباء والأجداد العظماء وكأنها وعت قول المعري: وقبيح بنا وإن تقادم العهد هوان الآباء والأجداد.
ثم أواصل حديث النفس قائلا: ماذا فعلنا نحن لتخليد ذكرى العظماء منا الذين تركوا على صفحات التاريخ بصمات لا تنمحي في شتى المجالات. وها هي تلك الأحاسيس تجتاحني اليوم وأنا أرى بأم عيني هذا الرعيل الأول من الضباط الجنرالات وقد أنهوا خدمتهم العسكرية بكل مهنية وانضباط يقفون لمغادرة مواقعهم التي احتلوها عن جدارة. سأضرب المثل بثلاثة منهم: محمد ولد عبد العزيز ومحمد ولد الشيخ محمد أحمد وحننه ولد حننه.
محمد ولد عبد العزيز: صنف نادر من رجالات الدولة والجيش كان غيورا على مصالح بلاده ساعيا في جلب المنافع لها ودرء المفاسد عنها، حكم البلاد فغير مجرى الأحداث ووجهها في الاتجاه الصحيح فصان وحدة البلد واستعاد الأمن والاستقرار وشيد بنى تحتية كثيرة وحارب الغلو والتطرف ونقل البلد نقلة نوعية على الصعيد العربي والافريقي والدولي. في عهده ارتادت موريتانيا آفاقا واسعة وصارت قبلة للأفارقة والعرب واحتضنت عاصمتنا قمة عربية وأخرى إفريقية. وكان للاستراتيجية الأمنية التي اتبعها نظام الحكم في عهد محمد ولد عبد العزيز بالغ الأثر في استتباب الامن في ربوع البلاد رغم ما يحيط بنا من بؤر الصراع والأزمات. فصار وضعنا ولله الحمد مضرب المثل، ومقاربتنا الأمنية مدرسة ومنهجا يحتذى. ولو لم يكن له من الفضل إلا نشر الأمن والاستقرار لكفاه شرفا فكيف وقد أنجزت في عهده مشاريع ذات نفع عام شهد بها القاصي والداني. لقد بقي محمد ولد عبد العزيز كما بدأ صنفا نادرا من رجالات الدولة والجيش كيف لا وهو الذي خلد اسمه في التاريخ برفضه التمديد له عن طريق تغيير الدستور. لقد دخل التاريخ من بابه الواسع واستحق بذلك أن يعد من عظماء موريتانيا.
محمد ولد الشيخ محمد أحمد: القوة الواثقة والهادئة، جبل لا تهزه الرياح ولا العواصف، رجل دولة من كبار الضباط السامين. أعاد بناء الجيش على أسس من العصرنة والمهنية والجاهزية القتالية والعتاد والعدة. رجل من الطراز النادر يعمل في صمت برؤية واضحة وبعد نظر وسعة صدر وقدرة على الاستماع والفهم خارقة للعادة كل ذلك في شخصية جمة الاخلاق مشبعة بالعلم والمعرفة. لم يكد يخرج من الخدمة العسكرية حتى استدعاه الواجب الوطني وزيرا من وزراء الحكومة فاضطلع بمهامه بمهنية ووطنية عالية وتواضع عز نظيره فلم يتغير شيء في مسيرة الرجل ولا في هيبته ومكانته في نفوس الناس وبقي كما كان علما شامخا في السماء عطاءه المهني لا ينقطع حيثما حل وله أن يرفع الرأس فقد اعتلا قمم الشرف ونال حب مواطنيه جميعا سواء منهم العسكري والمدني ومثله لن تعدم موريتانيا عطائه متى وحيثما دعت الضرورة فلن يتردد في إجابة نداء الوطن مهما كلف الثمن.
حننه ولد حننه: الفريق المحنك والخبير الأضبط يعمل بكلتا يديه كما يقال، رجل من معدن كريم من الرجال الأوفياء للوطن. خبر الجيش وخدمه أربعين سنة تخرج على يديه أجيال من الضباط الأكفاء فكان مضرب المثل في الاستقامة والمهنية والانضباط والجاهزية العسكرية عقيدة وممارسة. سل عنه الجنود وضباط الصف والضباط ومختلف الاسلاك العسكرية والأمنية. كان صورة حية للضابط المثالي فترك بصمة لن تنمحي في أجيال من التشكيلات العسكرية. ولعله من الضباط القلائل الذين أدركوا حرب الصحراء ومازالوا يواصلون عطائهم في الخدمة العسكرية للبلد. الفريق حننه كان على وشك أن يأخذ قسطا قليلا من الراحة بعد عقود من الخدمة العسكرية المضنية، فما هو إلا أن وقع الاختيار عليه لقيادة قوة الساحل. ومن غيره، إذا استثنينا أترابه من الجنرالات الموريتانيين، يستطيع أن يضطلع بهذه المهمة الصعبة؟ لقد خلق الله رجالا للمهام الصعبة التي تتطلب قوة القلب ورباطة الجأش والحنكة السياسية والخبرة العسكرية كل ذلك في إخلاص تام واستقامة وإيمان قوي لا تهزه المتغيرات. فصبرا أيها الفريق، فما كانت استراحتك المتوقعة الا استراحة محارب، لا يلبث أن يواصل بعدها السير. أما أنت فلم تنل استراحة حتى، لقد دعاك الواجب الوطني بل الإقليمي بل الافريقي بل العربي بل العالمي...نعم لقد اختارك زملائك لهذه المهمة الصعبة وتبنى العالم اختيارهم. لقد صرت رمزا لنجاح الرعيل الأول من الجنرالات الموريتانيين. اختيارك فيه تشريف لك واعتراف بخبرتك واستحقاقك لقيادة ذلك الجيش المتعدد الجنسيات، وفي اختيارك اعتراف بالنجاح الذي حققته موريتانيا في ظل زملائك من الرعيل الأول من الجنرالات الوطنيين. فلتهنأك القيادة أيها القائد الأممي.
هذه نماذج ثلاثة اخترتها من هذا الرعيل الأول من جنرالات موريتانيا الذين استحقوا جميعا أن يعدوا من عظماء رجالات الوطن سواء منهم من ذكرته هنا ومن لم أذكره لتجنب الإطالة. وشكرهم وتبيين فضلهم من أوجب الواجب في حقهم فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله وللرجال العظماء الأمة الممتنة كما يقول المثل الفرنسي الآنف الذكر.
تحية إجلال وعرفان بالجميل لكم جميعا أيها العظماء يا من أنتم مصدر فخر للجمهورية الإسلامية الموريتانية.