في لا وعي كل إنسان منزعٌ كبيرٌ جدا نحو الأمن والاستقرار، إذ أن فطرتنا كبشر هي البحث عن السكينة والاطمئنان، وهو الشيء الذي لطالما سعى له الإنسان عبر العصور. لكن يتحول هذا الأمر إلى الضد أو - النقيض إن شئت – بمجرد الشعور بالتهديد - أي تهديد - و لأي سبب.
إن الميل الفطري نحو حب الآخر قد يتغير دون شك إذا ما وُجدت الأسباب الباعثة على ذلك، فهل حقا توجد أسباب للكره في موريتانيا و من المتسبب في ذلك، وكيف يمكن القضاء على تلك الأسباب؟.
لم تعرف موريتانيا إبان تاريخها أي صراع عرقي بين المكونتين الناطقتين بالحسانية ( لحراطين والبيضان ) و ذلك عائد لأسباب لعل أبرزها اللغة المشتركة، والنزعة الفطرية نحو التآلف و السكينة، على الرغم من ممارسة العبودية التي عانى منها الكثير بغلاف ديني أحيانا و بغلاف التجهيل و أسباب أخرى يضيق المقام عن ذكرها.
لقد ظل هذا الوضع كما هو إلى أن بدأ تشكل الوعي التحرري – إن جازت التسمية - في نخبة " لحراطين " لتظهر للعلن حركة الحر و ما بعدها من حركات يتراءى أمامها مستوى التهميش و الضعف الشديد في مستوى المشاركة في صناعة مستقبل الدولة " المدنية " إلا في أضيق الحدود، ولعل تلك المشاركة جاءت كاحتواء للبذرة الأولى المطالبة بالمساواة و العدل في توزيع الدخل إلى غير ذلك من أمارات عدم الشعور بالرضي لما هو موجود.
كل تلك الحركات التي برزت في فترات مختلفة كانت تواجه برد فعل متفاوت الحدة والقوة و النوعية و الوسائل، دون أن تفهم الدولة العميقة الحاكمة " القبلية من وجهة نظر ما " أن تلك مجرد رسائل أولية كان يفترض أن تُأخذ على محمل الجد و اتخاذ إجراءات وقائية بطرق ذكية بعيدا عن الطرق التقليدية القائمة على صم الآذان عن " الحقائق " و محاولة التفرقة بتعيين هنا و ترقية هناك وهو ليس حلا ولن يكون طالما أنه لا توجد عدالة اجتماعية، بل إن ما يوجد ليس إلا قسمة المتغلب لخيرات بلد لا يصل تعداده لخمسة ملايين نسمة، و هو فهم سقيم لمشكلة أكثر عمقا تحتاج علاجا جذريا على مختلف الصُعد و أكثر حكمة مما جرى و يجري الآن.
إذا والحالة هذه و على الرغم من تلك الإشارات المرسلة وعلى فترات مختلفة و التي لم تجد آذانا صاغية غالبا، كان لابد من فعل شيء ما، فأن أكون ضمن دولة ما و أشعر أني مجرد مفعول به، لا فاعل و لا مساهمة لي في تحديد مستقبلها لن تكون مسألة مستساغة لي ولا لمن يحمل هم مجتمع متعايش، باختصار ، لمن يسعى لتحقيق دولة القانون بحق.
إن الحديث هنا ينحصر باعتبارنا في دولة قانون و سلطات ثلاث مستقلة عن بعضها و لا هيمنة مطلقة لبعضها على الآخر " أعني السلطات الثلاث" ناهيك أن تكون إحداها مجرد لعبة للأخرى أو حتى لمن ليست له أي صفة أو ربما ينتمي لإحداها للمفارقة.
هذه الفوضى تعطينا صورة واضحة عن أسباب ما أطلق عليه " الكره " . ذكرت أعلاه أن التعاطي مع كل تلك الرسائل كان بسلبية فجة غالبا و بمحاولة الاحتواء إذا ما تطور الأمر وأصبح خارج النسق الذي يراد له أن يظل كما هو ، لكن من الذي يريد استقرار نسق مشوه لا يستجيب لمتطلبات العصر والدولة المدنية والمساواة؟.
إنهم بدون شك دعاة الفوضى؛ أيادي ورجالات الأحكام العسكرية المتعاقبة التي تتبادل الأدوار لكي تظل تلك الميزات التي يحظون بها قائمة دون تهديد. تصور/ي معي أن تصحو مجموعة الفاسدين المستفيدين من فساد هذه الأحكام على من يريد مشاركتها في اقتسام عادل لخيرات بلده بطرق شفافة، هل يقبل ذلك؟ بكل تأكيد سيرى أن ذلك ليس إلا كرها فيه و للميزات التي يتمتع بها، فثروته ستمنعه من رؤية حال الآخرين الذين يحركهم الكُره. لقد تعطلت مَلكَة التفكير لديه بحيث أن ليس بمقدوره التفكير بشكل إيجابي ولا أن يرى الأمور من زاوية منصفة. إن المجتمع بالنسبة له ليس إلا كمية الأموال التي يجنيها يوميا و أي تهديد لانسيابية تلك الأموال يعتبر بالنسبة له تهديدا و كرها له شخصيا. وستزيد تلك النظرة إذا ما كان الحاكم " بالقوة العسكرية " نفسه تاجرا !
لم تكن شيطنة المطالبين بالإنصاف يوما حلا ولن تكون، ولن تجدي المسيرات و لا محاولة التغطية على الواقع شيئا طالما أن هناك ظلما وغبنا و تهميشا، و ستكون الاستفادة من مراجعة الماضي و الاستفادة من الملاحظات المستخلصة و دراسة الحاضر و التخطيط للمستقبل هو السبيل الوحيد للخروج من الوضع المختل الذي نعيشه الآن، لكن الصعوبة تكمن في الاعتراف أنه وضع غير طبيعي ومختل و يجب تقويمه، ثم كيف يتم ذلك التقويم و السبل الملائمة له، بعيدا عن التخوين و المحاولات السطحية والبائسة التي لازمت وتلازم الأحكام العسكرية التي لا تفهم لغة الحوار و لا التفاهم، إنما تسعى لأي طريقة تظل مسيطرة من خلالها على الحكم لتنهب ثم تنهب فقط.