برز في الساحة السياسية الموريتانية في الأيام الأخيرة مؤشران مبشران لمستقبل البلاد، ويجب تثمينهما، ودعمهما ليؤتيا أكلهما.
المؤشر الأول: يتعلق ببيان رئاسة الجمهورية الصادر يوم الثلاثاء 15 يناير 2019، الذي يؤكد تمسك رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز بمواد الدستور المتعلقة بانتخاب رئيس الجمهورية، ووقوفه في وجه كل محاولة لتغييرها، وقد كنا جميعا نشك في أنه سيفي بوعده باحترام الدستور، الذي يحدد مأمورية الرئيس، لأننا في موريتانيا وفي هذه المنطقة من العالم عامة عهدنا من رؤسائنا أن لا يحترموا الدستور، ولا يحترموا كلمة الشعب أو المشرع.. عهدنا منهم أن يضعوا القانون على رؤوسهم إن كان في صالحهم، وتحت أقدامهم إن لم يكن في صالحهم.. عهدنا منهم أن "الدولة هي أنا، وأنا الدولة، وكل ما سواي باطل، وكل ما خالفني لاغٍ"، هذا هو الحال دائما.. تتصاغر الدولة وتتحجم مؤسساتها، ويُحتقر شعبها ويُصادر رأيه، فلا يبقى هناك إلا رأي واحد هو رأي ذلك المبجل الجالس على الكرسي، وفي موريتانيا منذ الانقلاب على الرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله، لم يكن هناك ما يشجع على الثقة بأن الرئيس محمد ولد عبد العزيز سوف يحترم تعهداته، لأنه منذ ذلك اليوم أظهر في سلوكه وتدبيره للحكم ومواجهته للمعارضة تمسكا مريعا بالسلطة، واستبدادا بالرأي - بالمعنى اللغوي للاستبداد-، وعلى مستوى المؤسسات تكرست سلطة المؤسسة العسكرية التي جاء منها الرئيس والتي أعطته شرعية رئاسته، وتضاءلت فاعلية الأحزاب السياسية، وأصبح كل من لا يُدلي بضابط سامٍ لا نصيب له في الدولة.
كانت كل المؤشرات تقول إن الرئيس سوف يلجأ في النهاية إلى تحايل أو تغيير من ما نوع يسمح له بتجديد فترته الرئاسية، وظهرت الكثير من التكهنات التي تتحدث عن نوع ذلك التغيير المرتقب، وقامت مبادرات عديدة تحثه على ذلك، وتدعوه لأن يترشح من جديد، وكان أخطرها المبادرة الأخيرة التي أطلقتها مجموعة من البرلمانيين الذين يريدون تغيير مواد الدستور من خلال تصويت أعضاء البرلمان، وهي خطيرة من عدة جوانب، فهي سهلة، لأنها تتعلق بأشخاص محدودين هم نواب البرلمان الذين يمكن تحديد أغلبيتهم بسهولة، وهذه الأغلبية موجودة حاصلة الآن، وهي غير مكلفة فلا تحتاج إلى كثير من الدعاية، ولا إلى حشد لوجستي ومادي كالذي يحتاج له الاستفتاء العام مثلا، وهي أكثر أمانا لأنها يمكن أن تُجرى دون كثير من الضجيج الشعبي والتشويش، وهي ترفع الحرج عن الرئيس لأنه لن يبدو أمام العالم وكأنه غير الدستور أو أخلف بوعوده، فيستطيع أن يقول للشعب والعالم، إن هؤلاء نواب منتخبون لهم حرية الاختيار والتصويت، والقانون يعطيهم ذلك، ثم بعدها يستغل النتائج لمصلحته، بعد أن يكون هو من دبر للأمر وأعطى الضوء الأخضر للبرلمانيين بالتصويت، وهذه هي الخطورة لأن التلاعب بالقانون سيكون حينها شرعيا مبررا، وسوف يعيدنا إلى نقطة الصفر من مسيرة بناء دولة القانون، لكنّ ذلك – والحمد لله – لم يحدث، وجاء بيان رئاسة الجمهورية واضحا في الرد على أصحاب المبادرة، قاطعا في تمسكه بمواد التي تحدد مأمورية رئيس الجمهورية، وهي المواد 26 و 28 و 99، وهذا شيء يحمد لرئيس الجمهورية، وأيا كانت دوافعه في هذا التمسك، فهو قد اتخذ القرار الصواب الذي يصب في مصلحة موريتانيا أولا وأخيرا.
إن احترام الدستور في ما يتعلق بترتيبات انتخاب رئيس الجمهورية يضع أساسا صلبا لاحترام الدستور ككل، واحترام المؤسسات الدستورية المنبثقة عنه، ويصعّب على الرؤساء والمسؤولين القادمين مهمة التحايل عليه أو تغييره، وهذا معطى كبير لموريتانيا الغد التي نريدها جميعا، وقد يرى البعض أن هذا غير كافٍ وأن الرئيس إنما فعل ذلك لأنه يدبر لطريقة أخرى يعود بها إلى السلطة بعد حين، ولكن مهما كان تدبيره ومسعاه في المستقبل، فالمهم في الراهن هو أن لا يتغير الدستور، وأن يغادر الرئيس الكرسي عند انصرام ولايته الحالية، ليفسح المجال لرئيس آخر، ويبث لنا ولو لمرة واحدة أن التداول على السلطة حقيقي ومضمون بالدستور، حتى ولو كان ذلك التداول شكليا، لأنه في حال موريتانيا وكثير من دول العالم الثالث، فإن الحفاظ على نص الدستور - ولو شكليا – أساس وقد يأخذ وقتا طويلا حتى يصبح وجود ذلك النص حقيقيا وفاعلا في حياة الشعب، ونحن الآن في مرحلة الحفاظ على النص وفرض الجميع على الجميع، ونأمل أن نصل غدا إلى مرحلة فاعلية هذا النص وتأثيره، ولا بد أن نصل إليها إذا حافظنا على النص، وأما المستقبل وما يريده الرئيس ولد عبد العزيز في المستقبل ويدبر له، فهو غيب، وهو متعلق بمن سيحكم بعده، وبما سيحدث في تلك الحقبة، ولكل حادث حديث.
المؤشر الثاني: هو ظهور عدد من الفيديوهات في الأخبار وعلى مواقع التواصل الاجتماعي لزعيم حركة "إيرا" النائب البرلماني برام ولد أعبيدي يدعو فيها إلى السلم والتلاحم ورصّ صفوف الشعب جميعا دون تمييز، ويؤكد فيها لأنصاره أن حركتهم حركة سلمية، ويحذرهم من كل دعوات التفرقة، وكل الدعوات التي تريد جرهم إلى العنف والمواجهة مع فئات الشعب الأخرى، ولا شك أن هذه دعوة جديدة وموقف جديد من رجل كانت صورته السياسية عند فئات أخرى من الشعب أنه رجل طائفي - سواء كانت تلك الصورة حقيقة أو افتراء - وكان مناهضوه السياسيون يقتطفون من كلامه ما يدلل على تطرفه و"عنصريته"، وينشرونها مما يزيد في خوف الناس منه ومن حركته، ومناهضتهم له.
والحق أن حركة برام في أول ظهورها كانت حركة مريبة لأنها جاءت في ظرف كانت فيه "حركة الحر" قد قطعت أشواطا في النضال من أجل تحرير العبيد وحصولهم على المساواة والمشاركة، وحصلت على مكاسب جليلة في ذلك السبيل، وظهرت تباعا القوانين التي تجرم الاستعباد والممارسات المتعلقة به، فرجع هو بالدعوة إلى أصلها ودعا لتحرير العبيد في وقت كانت فيه القوانين قد أقررت بتحريرهم ومساواتهم للآخرين في الحقوق، ورفعت حركته شعارات وأطلقت تهما ضد البيظان مما تسبب في ردة فعل عدائية من طرف البيظان وأنعش حساسيات كانت في اتجاهها لأن تموت، وولد دعوات متطرفة تتبنى الشأن البيظاني، وأصحبت الحساسية بين الفئتين مرتفعة، وكادت تأخذ المجتمع إلى هوة خطيرة، وأذكر أن زعماء الحر التاريخيين حينها حذروا برام من مواصلة ذلك النهج، خاصة مسعود الذي قال بالحرف الواحد "إن موريتانيا ضعيفة ولا تحتمل الصراع، وإن الصراع إذا انفجر لن يستطيع أحد التحكم في مساره، ولا يعرف مآله، ولن يكون في صالح أي فريق"، وها هو برام اليوم يتخذ القرار الصحيح ويعطي صورة مغايرة للتي كانت يظهر بها أو تصور عنه، ها هو يتجه إلى ما يتبنى دعوة للوحدة والسلم الاجتماعي والوطنية، وهي دعوة يمكن أن نصدقها ونطمئن عليها، لأن هناك مؤشرات عديدة على أنه صادق فيها، وهذه المؤشرات ظهرت بداياتها منذ اعترافه بنتائج انتخابات يونيو 2014 التي حصل فيها على نسبة 8.65%، وما دخل فيه بعد ذلك من مواجهات مباشرة مع النظام أدت به إلى السجن عدة مرات، ورغم ذلك لم تخرج تلك المواجهات عن سياق المواجهة بين الحركة والأمن، ثم جاء التحالف مع حزب القومي ليؤكد ذلك التوجه نحو التصالح، وأخيرا ها هي هذه الدعوة التي ترافق دخول بيرام إلى البرلمان تؤكد بشكل نهائي هذا التوجه، وتعلن القطيعة مع ذلك الماضي "المريب".
أيا كانت دوافع هذا التوجه الجديد لبرام وأهدافه، وأيا ما ستكون مواقف مناهضيه منه، فإن علينا كموريتانيين حريصين على موريتانيا أن نقبله منه - وما نظنه إلا صادقا فيه - ونشكره عليه، وأن نأخذ بشكل التوجه ومنطوقه، وندع للمستقبل أهدافه ومآلاته، لأن المستقبل ليس شيئا متحققا، لكننا نحن الذين نحققه، وبتصديقنا لدعوة برام وقبولنا لها، وقبولنا للدخول في حوار سياسي معه أو المنافسة الشريفة معه، نكون قد وضعنا لبنة صلبة أخرى من لبنات بناء موريتانيا الحرة الديموقراطية، وقطعنا الطريق على التطرف والعنف والحزازات.
إن هذين القرارين من رجلين لم يكونا متوقعين منهما لجديران بالترحيب والتثمين وبالوقوف معهما من أجل موريتانيا وحدها، ولهذا أقول لهما: شكرا يا عزيز وشكرا يا برام.