اليوم من أولى أولويات مجلس جهة نواكشوط / محمدو ولد البخاري عابدين  

لا نستطيع الإحاطة بالآمال المعلقة على مجلس جهة نواكشوط المنتخب حديثا، وذلك لكثرة وتنوع وتشعب ما على طاولته من تحديات حضرية لا زالت العاصمة نواكشوط تواجهها، ومن تطلعات لا زال سكانها يتطلعون إليها في الكثير من مناحي الحياة الإقتصادية والاجتماعية، بل ما لا زالت العاصمة نفسها تحتاجه من تطور وتطوير حضري عمراني كمدينة تتمدد وتتوسع بلا حدود ولا آفاق.. نعم، ندرك أن حال البلد والحال الذي كانت عليه مناطقه الداخلية من انعدام الكثير من متطلبات الحياة من مياه وكهرباء وطرق ومنشآت صحية وتربوية لم يكن يسمح بالإنشغال عنه بتطوير وزخرفة العاصمة، ولم يكن من المسؤولية ولا من الحكمة ولا الحكامة الاهتمام بالمركز وترك الأطراف تعاني..

وندرك أيضا أن النقص ليس بالتأكيد في الأفكار والتصورات لما تحتاجه العاصمة من عصرنة وتطوير، فلا بد أن رفوف مجلس جهة نواكشوط اليوم، ومن قبله مجموعة نواكشوط الحضرية تعج بالدراسات والمخططات والتصورات بخصوص الموضوع، وأتذكر أنني بعيد انتخاب رئيسة مجموعة نواكشوط الحضرية سنة 2013 كتبت لها عن الكثير من تلك التصورات والمقترحات تحت عنوان " سجلي عندك سيدتي رئيسة مجموعة نواكشوط الحضرية الجديدة " حول

 1ـ رصف وإنارة وتشجير الشوارع الرئيسية.

2ـ تنظيم الأسواق.

 3ـ الاهتمام بالساحات العمومية والحدائق والتشجير المكثف.

 4ـ تنظيم حركة النقل ومنع تجوال الشاحنات الكبيرة وسط العاصمة.

 5ـ إحلال العربات ثلاثية العجلات محل عربات الحمير وساط العاصمة.

 6ـ معالجة ظاهرة انتشار المتسولين والمجانين وأطفال الشوارع.

7ـ إقامة المعالم والنصب والمجسمات الحاملة للمعاني الوطنية التاريخية والثقافية في الساحات وملتقيات الطرق الكبيرة.

8ـ منع ظاهرة الحيوانات السائبة والراتعة في " رياض " القمامة في الشوارع والساحات.

9ـ الاهتمام باللافتات والعناوين التجارية من حيث الشكل والخط، ومن حيث حضور وإبراز اللغة الرسمية للبلد.

10ـ اعتماد " كود " معماري للمدينة لكي لا يظل كل يقيم البنايات على هواه دون مراعاة لمعايير سلامة ولا عصرنة ولا ذوق، ولا تناسق معماري في مركز العاصمة على الأقل من حيث التناسق في الطراز المعماري وألوان الطلاء المستخدم للبنايات، إذ من المعروف أن الألوان الأحمر، الأصفر، الأخضر، الأزرق، الوردي، البرتقالي، البنفسجي الوان لا تصلح طلاء  لمباني المدن، لتنافرها أولا، ولتغير ألوانها بسرعة بفعل حرارة الشمس وغيرها من عوامل الطقس ثانيا، ونلاحظ للأسف انتشار استخدام هذه الألوان في العاصمة بشكل ملفت مما جعل هذه المباني تظهر كحديقة أطفال! خذوا كمثال مبنى إذاعة موريتانيا حاليا، ومبنى الصندوق الوطني للضمان الأجتماعي وغيرهما كثير..

بينما يعد اللون الرصاصي أو " الألمنيومي "، أو ما يعرف عند مختصي الطلاء ب ( Blanc Cassé ) الذي يتم الحصول عليه بمزج اللونين الأسود والأبيض بنسب معينة، هو أكثر ألوان الطلاء التي تعطي للمدن إشعاعا وبريقا وجمالا في الصور والمنظر وانعكاسا أخَّاذا للأضواء، علاوة على صموده وثباته أمام العوامل المناخية من حرارة ورطوبة وغبار، وبالتالي ملاءمته لظروفنا المناخية، وهو مستخدم اليوم في عدة بنايات في العاصمة كمبنى المحكمة العليا، ومبنى عمارة الخيمة، ومبنى وزارة التجهيز والنقل بمقاطعة السبخة..

وقد لا حظت خلال السنوات الخمس من مأمورية حضرية نواكشوط الأخذ ببعض تلك النقاط أو الأقل محاولة ذلك، لكنها كانت محاولات محدودة ودون متابعة، فالكل يعرف أن مجتمعنا الذي تربى على عصيان المدنية وتحد القوانين، لن يقلع عن ممارساته إلا بالصرامة والمتابعة لسنوات متتالية إلى أن يدرك أن القرارات والسياسات والقوانين لا تساهل ولا رجعة فيها حتى ينفطم عنها، خصوصا مع وضع البدائل التي تساعده على الفطام عن ممارساته.. ولذلك أتذكر أنني أيضا قلت لرئيسة حضرية نواكشوط، من ضمن ما أشرت عليها به حينها، أن لا تتخذ سياسات أو قرارات تعرف أنها لا تمتلك القدرة أو الوسائل لتنفيذها ومتابعتها، أو أخرى ستأتيها القرارات الفوقية من جهات نافذة بالعدول عنها، بحيث تبدأ في تطبيق تلك القرارات والإجراءات بجدية وحماس وما يلبث ذلك أن يتوقف وكأنه لم يبدأ، لأن ذلك لن يؤدي إلا إلى المزيد من " احتقار " المواطن للإدارة وتعزيز مناعته ضد قراراتها.

اليوم لا زال سكان مدينة نواكشوط يتطلعون لعصرنة وتطوير مدينتهم على كافة المستويات، لكن وكما يقول مثلنا الشعبي ( الكبده جات دون لمصارين )، فبعد حلول ضيف ثقيل على سكان العاصمة  أصبحوا ينتظرونه بقلق كل فصل خريف، ألا وهو حمى " الضنك " التي دخلت البلد واستوطنته خلال السنوات الخمس الأخيرة، فإنني على يقين من أن الأولوية أصبحت بالنسبة لهم اليوم هي مجابهة هذه الحمى الوباء الذي كان من المفترض أن يتم التعامل معه بروح حالة الطوارئ، فقد عرف الموريتانيون وألفوا حمى الملاريا التي استوطنت البلد، هي الأخرى، منذ عقود حتى أصبحت مرضا عاديا من الصعب الوقاية منه ولكن أدويته متوفرة وبتناول المصاب بها لأدويتها يتعافى ويستعيد قواه ونشاطه في يومين أو ثلاثة.

بخلاف حمى " الضنك " التي وإن كانت تشترك مع حمى الملاريا في الناقلات التي هي البعوض، وتشترك معها أيضا في بعض الأعراض، إلا أن الفرق بين المرضين شاسع وكبير، فبالإضافة إلى توفر علاجات حمى الملاريا وسرعة استجابة المريض لها عموما، فإنها لا تخلف تلك المضاعفات التي لم نعرفها قبل دخول حمى " الضنك " من آلام وتعب ووهن وفقد شهية ومضاعفات أخرى لا يمكن للمصاب التعبير عنها وتستمر معه لأسابيع بعد شفائه من الحمى نفسها، كذلك فإن حمى الملاريا كما عرفناها تصيب فردا أو اثنين من الأسرة دون الآخرين، بينما إذا أصيب فرد من أسرة بحمى " الضنك " فإنه على بقية أفراد الأسرة الاستعداد للإصابة بها، كما لا يوجد دواء محدد لهذه الحمى مما يجعل الجو يخلو للفيروس المسبب لها، وبالتالي لا وسيلة لمجابهتها غير تكثيف أساليب الوقاية منها، تلك الأساليب التي لا قبل للمواطن العادي بها باعتبار البعوض الناقل للمرض منتشر في كل مكان، في البيوت والشوارع والمكاتب والمساجد والمؤسسات التعليمية والمستشفيات، مع ملاحظة أن هذه الحمى لم تظهر في البلد إلا مع ظهور أنواع البعوض التي تلسع خلال ساعات النهار..

والغريب أنه في الوقت الذي تكون المستشفيات تعج بالمصابين بهذه الحمى لا حديث من الجهات المختصة عن هذا المرض وأعراضه ومضاعفاته، وإرشاد المصابين به حول كيفية التعامل معه، حيث يصرف المصابون أموالهم في شراء أدوية حمى الملاريا اعتقادا منهم أنهم مصابون بها ويستخدمون أدوية هم في غنى عنها ولن تفيدهم شيئا، ولو كانوا وجودوا الإرشادات إعلاميا أو في المستشفيات والمراكز الصحية حول هذا المرض، على الأقل من خلال إلزامية إجراء الفحوص للمعاودين لتحديد نوعية الحمى هل هي ملاريا يأخذ المصاب أدويتها، أم حمى " ضنك " ليتعامل معها بطريقة أخرى تجنبه شراء أدوية قد لا يكون قادرا على شرائها، وفي نفس الوقت ستتعب كبده وكليتيه وكان في غنى عنها!

نظمت مجموعة نواكشوط الحضرية خلال السنوات الأخيرة عمليات رش ضد البعوض خففت من انتشاره لكنها توقفت، وخلال إحدى السنوات التي تمت فيها عمليات الرش تلك تراجعت وإلى حد كبير الإصابات بالحميات، وأظهرت ذلك سجلات المستشفيات والمراكز الصحية بالعاصمة، وإن كنا لا نستطيع التأكيد هل كان ذلك راجعا لعمليات الرش، أو لأسباب و عوامل مناخية أخرى إذ يحتاج ذلك إلى إثبات علمي طبقا للمنهجيات المعروفة.

وقد سمعت أحد موظفي قطاع الصحة مرة وهو يتحدث في برنامج " المنتدى الصحي " على قناة الموريتانية يقول إن عمليات الرش الميداني تلك باهظة التكاليف نتيجة نوعية المبيد المستخدم فيها وأنه لا يمكن استمرارها، وأن السلطات الصحية تبحث إمكانية الاستعاضة عنها بمعالجة البيوت ضد البعوض، وهو أمر مُتفهم نظرا لأن المبيدات الحشرية كلما كانت أقل ضررا على البئية والإنسان كانت أغلى ثمنا، مما يجعل الجهات المختصة أمام خيارين، إما اللجوء لاستخدام مبيدات ضارة بالبيئة والإنسان، أو استخدام مبيدات آمنة لكنها مكلفة واستخدامها الميداني غير قابل للاستدامة.

وعليه فإن تطلعات سكان العاصمة اليوم تتجه لتخليصهم من هذا الكابوس، ومجلس جهة نواكشوط مدعو لإعداد خطة محكمة يبدأ الإعداد لها من الآن لتكون جاهزة خلال فصل الخريف المقبل للتصدي لهذا الوباء على أسس علمية، وبتضافر جهود كل الجهات المختصة من وزارات الصحة والبيئة والزراعة والسلطات الإدارية والمنتخبين، تكون شاملة ومعتمدة على معالجة كل أماكن تواجد البعوض في البيوت والمكاتب والمساجد والمؤسسات التعليمية والمستشفيات والمراكز الصحية.. حيث أصبح البعوض يحتل هذه الأماكن بشكل مزعج وخلال ساعات النهار التي لا يستطيع الإنسان فيها الإحتماء بالطرق التقليدية للوقاية كالنوم تحت الناموسيات المُعالجة مثلا.. وإذا نحج مجلس الجهة في مجابهة هذا الوباء فإنه بذلك يكون قد قدم خدمات جليلة وملموسة للساكنة لا تُقارن بأي خدمات أخرى مهما عظمت، ذلك أن صحة الإنسان هي أغلى ما يملك، ولا قيمة عنده لأي شيء آخر وهو مريض.. صحيح أن حمى " الضنك " ليست قاتلة، ولكنها تأخذ المصاب بها إلى ما دون الهلاك، تسلبه قواه ولا يستعيد عافيته إلا بعد أشهر من الشفاء منها، وهذا كلام كل من أصيبوا بها.

18. يناير 2019 - 17:26

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا