مأزق الحب والشعر في عصر السرعة والاتصالات / أحمد فال ولد الدين

 

altالعصر الذي نعيش فيه يتميز بكونه يحارب الروحيات لحساب الحسيات والماديات. فهو يحارب فنون الحب والشعروالأدب بوسائله التي استحدثها كافة، فيقتل إبداع الشاعر والأديب المحب ويترك لديه نزعة “مادية” تجذبه إلى الأرض أو تصيبه بلوثة “مادية” تقعده عن الخيال الخصب والمعاناة التي تولد المشاعر الخلاقة.

دعونا ننظر في هذه العجالة إلى بعض الوسائل  التي أصبحت جزءا من ضرورات العصر الذي نعيش فيه بيد أن لها تأثيرها السلبي على  ” إنتاج” الأدب وخيال الأدباء وطريقة تعاطي المحبين.

الطائرة.. سرعة “النقل”..على حساب تأمل “العقل”

هذه الآلة البليدة لا غنى عنها في هذا العصر،  فهي تنقلك من مكان في أقصى الدنيا إلى آخر في أقصاها دون أن تتجشم أي عناء، وفي أثناء رحلتها تلك تحرمك من رؤية المناظر ومن رؤية الناس في الأقطار التي تمر بها، مما يحرم الأديب من سبر أغوار تلك المجتمعات والانفعال بها ومعها  بما في ذلك من متاعب ممتعة، قد تولد لدى الشاعر إنتاجا خالدا، فراكبها يُحكم عليه إغلاق صندوق حديدي ولا يرى إلا الأوجه الموجودة بجانبه المنشغلةعادة بالعمل “المادي” – رجال أعمال غارقون في تحقيق حساباتهم على الجهاز المحمول مثلا-  أو أوجها أخرى غارقة في نوم عميق يرمز لمدى بعدها عن اليقظة “وقلق الضمير” الإيجابي، وحتى أنها لم تزود بالكثير من النوافذ التي قد تسمح لك يالتفرج على السحب وهي تزحف زخفها الأبدي في الفضاء، أو أن تتفرج على القمر أو لحظة الشروق والغروب من علو، بل أحكمت إحكاما دون التفكير في مثل هذه الأمور.
 ولعل أقرب نوذج للأضرار الكارثية التي جرتها الطائرة على إبداع الشعراء هو نموذج الحج.
فأنا لا أذكر أن أحدا من شعراء عصر الاتصالات كتب قطعة مؤثرة يتحدث فيها عن شوقه للحج، وقد كان الشاعر المؤمن تتحرك مشاعره شوقا إلى البيت العتيق، فيلهج بهذا الشوق أعواما ويستدعي ذلك أن ينتج نصوصا شعرية أو نثرية مملوءة بحرقة الشوق ورقة الصبابة، يتخيل فيها نفسه وقد بدأ الرحلة الطويلة نحو المحبوب ملبيا النداء الخالد: ” وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر ياتين من كل فج عميق”(1).ثم يرى العذال وقد انبروا له يثبطونه ويخوفونه وحشة البيد ووعثاء السفر.. ويمكن أن نلمس نموذجا من ذلك في أبيات محمد بن محمد العلوي التالية التي رد بها على بعض عذاله أياما قبل سفره للحج:
يامشفقا من رحيلٍ لج في كبد           هل أنت من دون ربي آخذ بيدي؟
أمسى يُفندني فيما أرى وأرى          مُفندي فيه منسوبا إلى الفَـــــــنَد
دعني وعزميَ والبيدا وراحلتي        وما يدور من الأفكار في خــــلد
الله حسبيَ لا ألوي على أحــــد           كلا، ومثلي لا يلوي على أحـد
وعقدةُ العزم مني لا ُيحل بهــــــــا             حل إذا حل عزم ُمحكم العُــــــــــــقد!(2)
فنحن نرى هذا الشاعر بعد أن لهج بفكرة الحج سنين قام عليه العذال يثبطونه ويخوفونه مشقة السفر ووحشة البيداء وما قد يلاقيه فيها، لكن نفسه الشاعرة المؤمنة تتحرك وتنطلق بهذه الأبيات الرقيقة التي لا نشك في أنه لو كان يعيش في عصر “الطائرة” هذا لما فاه بها، وإنما كان سيتوجه في صمت ليحشر بطريقة أبعد ما تكون عن إثارة الخيال في ” أفواج  حجاجنا الميامين” ثم يعود بعد أسبوع بجسم منهك وخيال متبلد!.
كان الحج يثير في نفس الشاعر الكثير من العوالم الشيقة المهولة المخيفة المفرحة المحزنة، فما إن يفكر في البيداء التي تحول بينه وبين منازل الأحباب في “منى” أو “الخيف” أو ” طيبة” دار المصطفى- صلى الله عليه وسلم-  جتى تنهار دموعه ممتزجة بشعر رقيق ليعلن لأصحابه إعراضه الكلي عنهم وانصرافه عنهم للضرب في الفيافي قاصدا تلك المرابع الطاهرة:
 إلى أرض الحجاز أحلْتُ عنكم              صفيحة وجه وجدي واشتياقي!
سلوتُ أحبتي واشتاق قلبــــــي              لتلك الأرض لا نجل الحداق(3)

لقد أصيب الأدب يوم تم اكتشاف الطائرة، فقد فقد الشعراء “متعة” الضرب في البيداء والتحاف السماء وافتراش الغبراء والاهتداء بالنجوم وتعليل النفس بالأماني التي تحول بينهم وبينها سباسب لا متناهية تمتد أمام أعينهم، فقدوا متعة ” تعليل النفس بنيل المقصود البعيد”. لقد أصبح المقصود على بعد ساعات فبردت العاطفة وتبلدت المشاعر!
الهاتف عدو الحب الأول!

كان الشاعر إذا فارق محبوبته لا يكاد يعرف عنها أي خبر. فلا يدري أفي الأحياء هي أم في الأموات؟ أمحافظة على العهد أم أنها أصغت لحديث الوشاة؟  فتتدفق مشاعره بالشعر الرقيق المعبر عن الشوق والخوف والألم والأمل وينصرف الشاعر إلى القمر يسائله هل رأى المحبوبة أو أظل أرضا تقيم فيها؟ ويتحسس النسيم العليل القادم من جهتها  عله يشم فيه ريا عبيرها وعطر روابي تسكنها:
 أليس اليل يجمع أم عمر
وإيانا فذاك لنا تداــــــني
نعم!. وترى الهلال كما أراه
وبعلوها النهار كما علاني

فاليل  والنجوم والكواكب والبدر كلها كانت تشارك في عملية “اتصال” بين الشاعر ومحبوبته: فرسوله اليلة القمر، ورسوله اليلة التي بعدها “نسيم الصبا”. أما وقد ” ابتدعنا” هذا الجهاز البليد المسمى ” بالهاتف” فقد أصبح الشاعرمبتورا عن محيط الطبيعة من حوله، يتعامل مع مشاعره بطريقة آلية “قانونية” ” فردية” مبتورة عن الطبيعة مما أفقده متعة مشاركة الطبيعة كلها من حوله في التواصل بينه وبين محبوبته، فهواليوم وإن كان في أقصى الدنيا قادر على أن يكلم محبوبته كل وقت شاء ولساعات طوال، وأصبح صوت ” نداء المحبوب” يأتي بنفس الرنة التي تأتي من طرف العدو والصديق ومكان العمل : رنة مزعجة تشبه “النفخ في الصور” خالية من المشاعر ومن “الخاصية” التي لا تستغني عنها النفس الأديبة…
يرن الهاتف، فيكون وراء تلك الرنة مطالبون بدفع فاتورة الكهرباء أوالماء أحيانا، أو يكون المتصل مسؤول في الإدارة التي يعمل فيها الشاعر يريد منه أشياء “شيئية” باردة، أوقد يكون المتصل هو “المحبوبة” المسكينة ، لا يهم:” تشابهت المنا كب والرؤس”!.
أما أن يكون النسيم يحمل ريا المحبوبة فيتلقفه الشاعر المدنف فذلك شيء فقدناه بسبب وسائل الحضارة التي نعيش:
 هبت لنا من رياح الغوررائحـــــــة       بـــــــــعد الرقاد عرفناها بريــــــاك
سهم أصاب وراميه بذي ســـــــــلم       من بالعراق، لقد أبعدت مرمــــــاك!
وعد لعينيك عندي ما وفيت بــــــــه       يا قرب ما كذبت عيني عينــــــــاك
أنت النعيم لقلبي والعذاب لــــــــــــه       فما أمرك في قلبي وأحـــــــــــلاك!
***                           ****                          ***
وبما أن حضارتنا المعاصرة ابتدعت لنا هذه الاتصالات الحديثة، فإننا لن نلفي شاعرا يجد نفسه في حالة نفسية تسمح له بإنتاج نص شعري شوقا إلى محبوب تفصل بينه وبينه سلسلة من الجبال:
أيا جبلي نعمان بالله خلـــــيا          نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها
أجد بردها لتشف مني حرارة         على كبد لم يبق إلا صميمـــها
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت        على نفس مهموم تجلت همومها

فلو كان قائل هذه الأبيات في عصرنا، لأخذ مفاتيح سيارته وانطلق إلى المحبوبة ليصلها بعد ساعات ولما كتب حرفا من هذا الشعر الذي يقطر عذوبة وروعة!
إن العصر الذي نعيش فيه يقتل الإبداع والروح، ولا يسمح لأهله أن يخاطبوا أنفسهم أو “ينفردوا بها”، فمشاغله وسرعته وتقارب الزمن فيه، كلها عوامل حولتنا إلى مجموعة من ” متصوفة الرأسمالية” المجدين المهوسين ب”المادي” و”الحسي” على حساب الروحي والمعنوي.
إننا نحتاج – في هذا العصر الذي يطحننا طحنا- إلى مجالس مثل ذلك المجلس الذي وصف أبو حيان التوحيدي في كتابه الممتع المؤنس: ” الإمتاع والمؤانسة” حيث وصف مجلس أحد الأدباء عندما أنشدته جاريته:
” لو أن ما تبتليني الحادثات به     يلقى على الماء لم شرب من الكدر!”
علق واصفا ذلك المجلس قائلا: ” هناك ترى والله أحداق الحاضرين باهتة، ودموعهم متحدرة، وشهيقهم قد علا رحمة له، ورقة عليه، ومساعدة لحاله، وهذه صورة إذا استولت على أهل مجلس وجدت لها عدوى لا تلمك، وغاية لا تدرك، لأنه قلما يخلو إنسان من صبوة أو صبابة، أو حسرة على فائت أو فكر في متمنى أو خوف من قطيعة، أو رجاء لمنتظر، أو حزن على حال” (4).
فمجالس من هذا النوع يمكن أن تساهم في رد إنسانيتنا المسلوبة وأرواحنا المنهوبة.

الرسائل الإلكترونية وغياب “بصمة الحبيب”
لعل آخر ما قضى على خيال الأدباء والمحبين وساهم في “تثليج” وسائل الاتصال بينهم هو تقنية “الرسائل الإلكترونية”، فنحن نعلم بأن المحبين في تاريخ الأدب العربي كانوا يفضلون المراسلة بعض الأحيان على التحدث مباشرة إلى المحبوب لأنهم يرون فيها نوعا من “الاتصال” المختلف الذي لابد  منه والذي يشبع جوانب من الروح لا يشبعها غيره . يقول الإمام العلامة  بن حزم  رحمه الله في كتابه الرائع “طوق الحمامة” في باب “المراسلة :  ” ولعهدي ببعض أهل المحبة ممن كان يدري ما يقول، ويحسن الوصف ، ويعبر عن ما في ضميره بلسانه عبارة جيدة،ويجيد النظر ويدقق في الحقائق لا يدع المراسلة وهو ممكن الوصل قريب الدار داني المزارويحكي أنها من وجوه اللذة”(5).
فإرسال رسالة للمحب وتسلمها منه كلها” نشاطات” لا يريد المحب أن يتنازل عنها مهما كان قريب الدار داني المزار.
لكن المشكلة أننا اليوم أصبحنا نرسل الرسالة إلى المحبوب بطريقة ” آلية” ، إذ يجلس الواحد منا أمام ” آلة” ويطبع – بدل يكتب- عليها أحرفا بطريقة لا يستطيع أن يتدخل فيها إذ أن كل شيء مصمم سلفا، فعليه أن يكتب إذن بطريقة “محايدة” تغيب عنها بصمته وخاصية خطه. فكل رسالة إليكترونية في هذا الكون مطبوعة وكل ” طباعة” تخفي من يقف وراءها ولا تسمح له أن يطل على محبوبه من خلال خطه الذي هو “جزء” منه، وإن حاول  المسكين كسر الحاجز ومحاولة ترك” بصمات” مزورة  على الأحرف أو الإشارات عن طريق التحكم في الخط أو رسم “قلب” فإن النتيجة ستكون أكثر مأساوية، إذ أن ما سيرسله إنما هو ” صور” سابقة على لحظة الكتابة، وهي في النهاية “صور” تنقصها الحياة والحركية والتجدد والخاصية…فهي آلية.
لننظر إلى ما يقول ابن حزم عن شكل الرسائل التي ينبغي أن يتبادل المحبون:
“وينبغي أن يكون شكل الكتاب ألطف الأشكال، وجنسه أملح الأجناس، ولعمري إن الكتاب للسان في بعض الأحايين، إما لحصر في الإنسان، أو إما لحياء وإما لهيبة. حتى إنه لوصول الكتاب إلى المحبوب وعلم المحب أنه قد وقع بيده ورآه للذة يجدها المحب عجيبة تقوم مقام الرؤية، وإن لرد الجواب والنظر إليه سرورا يعدل اللقاء ، ولهذا ترى العاشق يضع الكتاب على عينه وقلبه ويعانقه”.(6)
 إن الطريقة التي وصف بها ابن حزم طريقة تسلم المحب للرسالة من عناق للكتاب ووضع له على القلب، تعبر تعبيرا دقيقا عن المشاكل التي أوقعتنا فيها الرسائل الإلكترونية. فالرسالة الإليكترونية ليست ” شيئا” ملموسا، بل إن المحب سيطلع عليها داخل “آلة” تزيغ البصر” ولا يمكن له أن يلمسها، بخلاف الرسائل المكتوبة فهي بحق “جزء” من المرسل، عليها وضع كفه ولا مسها ولا مس القلم الذي كتبها به، وكتبها بخطه الخاص الذي يميزه المحبوب، وقد يكون المحب  هو من جهز حبرها لذلك سيكون من المفهوم أن يضعها الآخر على عينيه ويقبلها لأنها جزء من محبوبه. أما الإيميل فمبتوت لا علاقة له بمرسله، فالأجهزة المعاصرة ” معقمة” ضد الحب والشعور.
ولكي تلاحظوا الفرق بين مشاعرنا ومشاعر من سبقنا دعونا ننظر إلى أسلوب من أسالب التعبير عن الحب من خلال المراسلة يذكرا بن حزم أن المحبين كانوا يعبرون من خلاله عن مدى شوقهم وتعلقهم بمحبوبهم فقد كانوا يسقون الحبر بالدمع، أو بالدم على أن يرد المبعوث إليه بحبر سقاه بريقه مثلا، مما يحول الرسالة المستلمة إلى قطعة من المحبوب. يقول بن حزم:  “وأما سقي الحبر بالدمع فأعرف من كان يفعل ذلك ويقارضه محبوبه بسقي الحبر بالريق “(7)
ثم يضيف متحدثا عن الكتابة بدم المحب: ” ولقد رأيت كتاب المحب إلى محبوبه وقد قطع في يده بسكين له فسال الدم واستمد منه وكتب به الكتاب أجمع . ولد رأيت الكتاب بعد جفوفه فما شككت أنه بصبغ اللك” (8)
الخاتمة
الحضارة المعاصرة بتقنياتها “السهلة” السريعة تمكننا من قطع المسافات لكنها تحد من هامش العطفة عندنا.  تسرق منا أعز ما نملك وتقايضنا ببديل “سريع”  لكنه لا يمتلك ” أصالة” القديم ولا “حيويته” رحم الله علي بن أحمد بن حزم  فلو عاش حتى وصل إلى هذ العصر الآلي لندب الأحبة وبكى على الألفة والألف وتأسف على مصيرالحب ووسائل التعبير عنه في هذا العصر المتغول الذي لا يعبر أهله إلأا بالأمور الماديية الشيئة الممجوجة.

26. مايو 2012 - 14:10

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا