لم يكن اعلان استقلال الجمهورية الإسلامية الموريتانية في 28 نوفمبر 1960، ليمثل نقطة ارتكاز لافتة في الوعي العام للساكنة الموريتانية، في عمق البراري واتساع المراعي وزحمة الآبار، فقد كانت تلك الساكنة، في معظمها، موغلة في البداوة والتخلف، مع أن ذاكرتها الجمعية خلو من أي أثر لتراث سلطاني جامع؛ لكن ذلك الإعلان، التاريخي بكل المقاييس، قد مثل تجسيدا حيا لأمل عريض وحلم جميل داعب وعي وخيال البناة المؤسسين من نخب تلك المرحلة ومتعلميها، هو إقامة أول دولة مستقلة حقيقية، تحيط هذه الربوع وأهلها؛ وإن كان الإعلام مثل انتكاسة صاعقة لمشاريع سياسية لأطراف متعددة، سعت مبكرا إلى إلحاق البلاد بكيانات قائمة أو منتظرة القيام في الجوار، شمالا أو شرقا؛
لقد أقنع الحالمون المؤسسون والبناة الأوائل، أنفسهم بأهليتهم الكاملة للمهمة الصعبة التي انتدبهم التاريخ لها، والمتمثلة في الخروج بالكيان الوليد الهش المجتث من فوق الأرض، ما له في التاريخ من قرار، إلى مصاف الدول، وبكفاءتهم لمواجهة التحديات والمثبطات، وبتلك الثقة انتزعوا اقتناع العالم واعترافه وثقته؛ ولقد وصبر ذلك النفر من الأبطال، وصابروا ورابطوا، وما وهنوا وما استكانوا، وهم يرسمون على غير مثال سابق، الأسس النظرية للدولة المنشودة، ويحددون الأهداف القريبة والبعيدة، ويضعون اللبنة على اللبنة، لإدراك تلك الأهداف وتحقيقها، في تؤدة وتصميم، شد فرسانه الأحزمة، واستهزأوا بالظمأ والطوى والمناخ والظروف غير المواتية؛ وبمعونة الأصدقاء بنوا وشادوا وأعلوا وعمروا ونجحوا، وبين أيديهم لان كل صلب، وسهل كل صعب، وتيسر كل عسر؛
لم يكن أمام أولئك البناة، ولا في تراث أسلافهم الماضين، مثال يمكن احتذاؤه، من التقاليد السياسية أو الحضارية؛ وكانت دول ما بعد الحرب العالمية الثانية، قسمة في الولاء بين معسكرين، وقد انحاز معظم الدول الحديثة الاستقلال، وتلك الساعية إليه، لنهج المعسكر الشرقي في الحكم، وعماده سياسة الحزب الواحد المهيمن على الحياة، فرأى البناة المؤسسون أنه أنسب لضبط الأمور في مجتمع بدوي قبلي لا عهد له بالضوابط، وما يفرقه اكثر مما يجمعه؛ لكن وتحت يافطة الحزب الواحد، تسارعت خطوات البناء، وتعززت الوحدة الوطنية، وقطعت أشواط بعيدة نحو الأبعاد السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية للاستقلال؛ ثم دخلت البلاد، مكرهة، حرب الصحراء التي اعتبرت مفروضة فرضا، على البلاد، ومع كلفتها الهائلة وتبعاتها الثقيلة، ظلت الآمال في الغد تتسع، ثم وقع الفاس في الراس!
وضع انقلاب الـ 10 من يوليو 1978، نهاية لأحلام الدولة الموريتانية، كما تخيلها وعمل من أجلها جيل النشأة الأولى ونخب ما بعد التأسيس؛ فبالانقلاب دخلت الدولة وشعبها في واد للتيه عميق وسحيق؛ واد تدحرج على منحدراته، مع بعض الرؤوس الكبيرة والصغيرة، كثير من الآمال العريضة للأمة، وتهاوت في غياهبه مُثُل وقيم المواطنة التي نبتت وتراكمت خلال أكثر من عقد ونصف، تاركة مكانها لموجة عارمة من التخبط والارتجال، والتدافع العنيف تارة، والهادئ أخرى، الناجح مرة والفاشل مرات، على السلطة وغنائمها؛ وفي ظل الخيفة والتوجس من شرعة الأقوى وقانون الغاب، انتكست الحالة الوطنية وازدادت سوء في كل اتجاه؛ ومع أن الحرب توقفت، وانسحبت الإدارة من واد الذهب، فقد طغت حدة الانتماءات القبلية والعرقية والفئوية والجهوية، واختل ميزان العلاقة بالجيران، شمالا وجنوبا، وعمت المظالم، وانتشر السلب والنهب، بل والقتل والنفي على الهوية؛
مثلت اثنتان من القمم الفرنسية الإفريقية السنوية، متنفسا للموريتانيين من غلواء الطغيان، الأولى قمة بوجمبورا(1984) التي أتاحت فرصة لتداول قسري على السلطة، أفرغت فيه السجون والمعتقلات؛ أما الثانية فهي قمة لا بول (1990) التي اضطرت الحاكم العسكري لإضفاء مسحة من الديمقراطية الشكلية على النظام، لكنه دخل إليها من البا ب الخلفي؛ فقد زج النظام بالمجتمع في أتون صراع بدائي كريه، من خلال انتخابات بلدية متدرجة، في غيبة الدستور، كرست في مجرياتها ونتائجها عودة كاسحة إلى القبلية في أجلى صورها؛ ثم جاء أول دستور في عصر الانقلابات (1991) تسوقه المادة (102) التي أفرغته من مضمونه التعددي؛ ثم تلاه قانون النشر والصحافة، تتوسطه المادة (11) بمقصلتها المسلطة على كل تعبير أو نشر حر؛ ثم توقف الزمن مكانه، وسرت روح الأحادية المطلقة، في ذلك الشكل الديمقراطي الكسيح: فرد حاكم بأمره، يجدد نفسه لنفسه كل حين، وأوامر قانونية يسنها ويحتكر تأويلها المزاج الشخصي للحاكم؛
فشلت المحاولات العديدة والمرهقة، لإنهاء تلك المهزلة البائسة، سلما أو حربا، ودفع العديد من المواطنين الشرفاء ثمن فشلها، قتلا وسجنا ومصادرة وتشريدا ومطاردة وتضييقا ونفيا، وطال الانتظار؛ إلى أن انفرج الأمر في منعطف أغسطس التاريخي (2005) وما تلاحق معه من إصلاحات على مستوى التشريع والممارسة السياسية، تجسدت حصيلته في أول وآخر عملية تداول سلمي للسلطة في البلاد، منذ الاستقلال، حين تسلم الأمر في انتخابات صحيحة، لم يختلف الفرقاء على شفافيتها، تكنوقراطي مدني صميم، بغض النظر عن خلفية ترشحه ودوافعه؛ لكن فرحة تلك التجربة الرائعة كانت قصيرة العمر، فقد أجهضتها انتكاسة أغسطس (2008) التي عادت بالبلاد إلى عنق الزجاجة، ومربع الأحادية من جديد، ثم استعصت تبعاتها طويلا أمام أية تسوية تعيد الرئيس المنتخب إلى كرسيه؛
بدلا من ذلك تمثلت التسوية العسيرة لتلك الانتكاسة الكبيرة، في عودة البلاد إلى مربع ما قبل (2005)، ممثلا في سلطة مركزية أحادية، تتجمع أَزِمَّتُها وكل خيوطها في يد ضابط انتزع السلطة في انقلاب عسكري، ثم خلع بزته، وخاض انتخابات مثيرة للغط، حسمتها أجهزة الدولة ووسائلها لصالحه، في دورتين لمأموريتين اثنتين، توشك اليوم أخيرتهما على نهايتها الدستورية، وتهيمن سيناريوهات ما بعدها، على المشهد الوطني برمته؛ وبين الأصوات والمبادرات النشاز، يترجح من تلك السيناريوهات، وهو أقربها إلى الواقعية، حدوث تناوب ما، يتم الترتيب له داخل المؤسسة العسكرية، بحيث يقدم كبار الضباط بديلا لقائدهم المنتهية ولايته، مع اتخاذ تدابير محددة تضمن إعلان فوزه، مهما كانت التبعات، في منازلة مرشح موحد مفترض لقوى المعارضة، لم تتبين قسماته الكاملة بعد؛ ثم ربما كان لحديث التناوب بقية بين الضباط، فيما بعد انقشاع الغبار؛ يشير بعض المحللين في هذا الصدد، إلى سابقة عنوانها:"بوتين – مدفيديف"؛
عامنا الجديد إذن، هو سنة انتخابية رئاسية، ستكون حاسمة فارقة، أو اعتيادية شكلية؛ ومهما يكن فهي تتوج مسيرة تسع وخمسين سنة مرت منذ الاستقلال؛ قادها تسعة من الرؤساء، وصلوا السلطة بالتوصيات والانقلابات والانتخابات؛ وحكمها حزب واحد للسلطة، بدل جلده وعنوانه خمس مرات؛ وكانت مليئة بالمطبات والعثرات والثغرات، دار فيها الزمان وكرَّ الجديدان والملوان والحدثان؛ وتغيرت أوضاعٌ وأنساقٌ وأحوالٌ؛ وتبادلت الكراسيُّ والأرائكُ شيبا وغلمانا، فتيات وفتيانا؛ وتضاعفت أعداد الساكنة عدة مرات؛ وتنوعت مصادر الأموال والثروات؛ وتطورت وتيسرت وسائل العلم والمعرفة والتواصل؛ فهل نجعل من سنتنا الانتخابية الرئاسية وعاء لإنجاز تناوب سلمي، نؤدي به أمانة القسط بين الناس في السلطة والثروة والمعرفة؟ ونودع به عهدا ظلت فيه السلطةُ دولةً بين الأقوياء لا الأمناء، والثروةُ دولةً بين الأغنياء لا الفقراء، والمعرفةُ دولةً بين العلماء لا الجهلاء؟