كلنا نتذكر الزوبعة التي رافقت انعقاد قمة نواكشوط العربية صيف 2016، وتغيب زعماء عرب عن تلك القمة، وما أثاره قرار رئيس الوفد اللبناني رئيس الوزراء حينها تمام سلام المبيت في الرباط قبل القدوم إلى نواكشوط، بسبب ما قال وزير الصحة اللبناني" وائل فاعور" إنه عدم ملاءمة ظروف الإقامة في العاصمة الموريتانية، وتصاعدت أصوات محلية حينها مطالبة بأخذ موقف من الوفد اللبناني يُشعره بالعتب الموريتاني عليه، لكن الكياسة والحكمة والدبلوماسية لم تعبأ بذلك، حيث تم استقبال رئيس الوزراء اللبناني من طرف نظيره الموريتاني آنذاك الوزير الأول يحي ولد حدمين، وتم أرساله لوداعه في المطار أيضا كما استقبله فيه لدى قدومه، كما تم إطلاع الوفد اللبناني قبل مغادرته على الفيلا التي كانت معهدة لاستضافة رئيس الوفد، وعبر عن حسن تأثيثها وتجهيزها بكل المستلزمات..
وفي المقابل عومل الأمير القطري بنفس المعاملة التي ربما لم يكن يريدها أو ينتظرها لكنه أخذ طريقها، عندما ضبط ساعته على الوقت اللازم للرحلة الجوية بين الدوحة ونواكشوط، بحيث يصل المطار والرئيس محمد ولد عبد العزيز يستقبل ضيوف القمة عند باب خيمتها، كان الوفد القطري يتوقع أن يترك الرئيس محمد ولد عبد العزيز استقبال ضيوفه ويهرع إلى المطار لاستقبال الأمير، لكن الرئيس بقي يستقبل الضيوف وأرسل وزيره الأول لاستقبال الأمير الذي وصل متثاقلا في ثلاث طائرات، وبعد ثلث ساعة من افتتاح القمة انسحب بدون سبب، فأرسل الوزير الأول أيضا لوداعه مثلما استقبله عند وصوله..
دارت الأيام، وتقرر انعقاد القمة العربية الإقتصادية والإجتماعية في بيروت، وتجددت تلك الأصوات التي سمعناها تقول، أيام قمة نواكشوط، بضرورة معاملة وفد لبنان طبقا لتصريحات وزير صحته، ومبيت رئيس وزرائه في الرباط على أساس تلك التصريحات، تعيد الكرة من جديد وتقول إنه على الرئيس الموريتاني مقاطعة قمة بيروت انتقاما من ذلك الموقف، لكن لا جديد.. الحكمة وعدم الخفة والثقة في النفس ذاتها أبت أن تنزل لذلك المستوى، وقرر رئيس الجمهورية مسؤولية منه والتزاما تلبية دعوة لبنان والحضور للقمة بغض النظر عمن شارك ومن غاب من بقية الزعماء..
ليس ذلك فقط، بل إن المتفق عليه اليوم بين كل المراقبين والمحللين، هو أن المقاطعة العربية الواسعة للقادة العرب لقمة بيروت، جاءت رضوخا لضغوط سعودية استجابت لها أغلبية البلدان العربية، معظم بلدان الخليج، ومصر، والأردن، واليمن، والسودان، والصومال، وجيبوتي، وجمهورية القمر.. بحجة أن لبنان مختطف من قبل حزب الله وإيران، لكن الرئيس محمد ولد عبد العزيز وصل بيروت للمشاركة في القمة قادما من المملكة العربية السعودية نفسها، شاكرا لملكها وولي عده حرارة الاستقبال وكرم الضيافة خلال مقامه ببلدهما..
ونحن متأكدون من أن الضغوط السعودية لثني القادة العرب عن حضور قمة بيروت لم تُستثنى منها موريتانيا، ولكنها نفس الضغوط التي مورست من قبل من أجل طرد السفير السوري في نواكشوط والاعتراف بما يسمى المجلس الانتقالي السوري ممثلا شرعيا لسوريا ورُفضت، والضغوط التي أعقبت ذلك حول نفس الملف وتقديم الدعوة للمعارضة السورية لشغل مقعد سورية في قمة نواكشوط ورُفضت، والضغوط أو الطلبات التي قُدمت لموريتانيا من أجل قطع علاقاتها مع إيران ورُفضت، والضغوط أو الطلبات التي قُدمت لها لإرسال جنودها للقتال في اليمن ورُفضت.. وذلك رغم متانة وحيوية العلاقات الموريتانية السعودية خلال كل هذه الأحداث..!
ليست قمة بيروت سوى واحدة من القمم العربية الرابعة اقتصاديا والأربعين ونيفا سياسيا، لا كبير أمل مرجو أو منتظر منها، لكنها على أية حال ملتقى عربيا رسميا الرابح من حضوره هو موريتانيا ولن تخسر شيئا من ذلك الحضور، وتثاقل الآخرين وأجنداتهم لا تعني موريتانيا وليست طرفا فيها وبالتالي لا يتوقف لها عليها شيء، فإذا دعيت فاستجب..
نفس الجهات التي طالبت سابقا بمعاملة موريتانيا للبنان بالمثل، بل معاملة كل الزعماء الذين لم يحضروا قمة نواكشوط بالمثل أيضا، ودعت إلى تشكيل واختيار موريتانيا لمحورها العربي على ذلك الأساس، تطالعنا اليوم بتفسير لأسباب امتناع قناة " الجزيرة " عن بث خطاب رئيس الجمهورية في الجلسة الافتتاحية لقمة بيروت، تفسير لا نعلم هل زودتها بها قناة " الجزيرة " أم هو تفسير من عندها، ويقول هذا التفسير إن سبب امتناع القناة عن بث الخطاب هو أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز في خطابه شكر الرئيس اللبناني وسماه بالإسم، بينما تجاهل ذكر الأمير القطري الحاضر للقمة، وأكتفى بمخاطبته ب " صادب السمو "!
ماذا تريدون من الرئيس إذا كان هذا هو البروتوكول المعهود في كل القمم العربية، حيث يقدم الضيف المتكلم الشكر لرئيس البلد المضيف ويسميه بالإسم، ثم يقدم الشكر لرئيس البلد الذي كانت لديه رئاسه الدورة ويسميه بالإسم، ثم يقدم الشكر بعدهما للأمين العام لجامعة الدول العربية باسمه أيضا، ليتوجه بعد ذلك لبقية القادة بالقول " أصحاب الجلالة والفخامة والسمو " دون أن يذكر أيا منهم بالإسم.. وهو بالضبط ما قام به رئيس الجمهورية، شكر كلا من الرئيس اللبناني ميشيل عون رئيس البلد المضيف، والملك سلمان بن عبد العزيز رئيس الدورة السابقة للقمة، ولأن الأمير القطري هو الأمير أو القائد العربي الوحيد الحاضر في القاعة فقد توجه إليه بالقول " صاحب السمو ". ولو كان معه رؤساء أو ملوك أو أمراء آخرين لخاطبهم بنفس الصيغة دون ذكر أسمائهم " أصحاب الجلالة والفخامة والسمو ".. كما أنه لو كان المتكلم رئيس آخر غير الرئيس عزيز، بينه قطيعة دبلوماسية مع دولة قطر، لكان تجاهل ذكر أميرها في خطابه..
لكن أي منكم يبحث عن الأسباب الحقيقية لامتناع قناة " الجزيرة " عن بث خطاب الرئيس محمد ولد عبد العزيز ويجلس الآن حائرا عاجزا عن تفسير لذلك الامتناع؟! إنه " الطرطور " و " الجنرال " و " الحاكم العسكري " لموريتانيا الذي ظل صامدا أمام التدخل القطري في الشؤون الداخلية الموريتانية، إنه " الطرطور " و " الجنرال " و " الحاكم العسكري " لموريتانيا الذي عمل بسياساته وطريقة حكمه وحكامته في بقاء موريتانيا خارج نشرات قناة " الجزيرة " بعناوين قُتل، وفجَّر، ودمر، وهجَّر، ونزح، وسيطر، واستعاد السيطرة.. طيلة ثماني سنوات من الدماء والدمار والتفجير والتهجير والنزوح والمآسي والدموع، رغم أن ذلك كله سُمي " ربيعا عربيا "!!!
إنه " الطرطور " والجنرال " و " الحاكم العسكري " لموريتانيا الذي لا ترضى القناة ومن وراءها عن تعامله مع فصيل سياسي هو في النهاية فصيل سياسي موريتاني وليس فصيلا سياسيا في بلد آخر، وتعامل موريتانيا معه يخصها ولا يخص غيرها!هو " الطرطور " و" الجنرال " و" الحاكم العسكري " لموريتانيا الذي هو من يتفحص ويتلمس مصالح بلده ويحدد أين تكون، ويقيم علاقاته الإقليمية والدولية على ذلك الأساس، الأساس الأقل شرا وتدخلا في الشؤون الداخلية له، والأكثر جلبا للمنافع له ولشعبه تنمية وأمنا واستقرارا، لا أساس إخضاعه للتجارب المدمرة والمغامرات..! إنه " الطرطور " و " الجنرال " و " الحاكم العسكري " لموريتانيا الذي ستمخر سفن نقل الغاز المسال عباب المحيط الأطلسي بعد سنوات قليلة انطلاقا من شواطئ بلده نحو أسواق أوروبا الغربية والأمريكتين الأقرب والأقل تكلفة من مصادر " الغازات " الأخرى..!
لكنه أيضا هو " الطرطور " و " الجنرال " و " الحاكم العسكري " لموريتانيا الذي يتلقى كل هذه الأوصاف من قناة، ولا يزال مكتبها عاملا في عاصمة بلاده بنفس الحرية التي افتُتح وبدأ بها في ظروف سياسية أخرى غير هذه!
ألقى الرئيس محمد ولد عبد العزيز كلمته في القمة، وتابعها الحضور، ونقلتها عديد القنوات الفضائية، وتابعها الموريتانيون في وسائل إعلامهم " ؤلا بان بل التركيبه " التي ركَّبت بها القناة قطع بثها للخطاب، ولا " بل " تركيبها لبث ما جاء بعده من خطابات من هم أقل مستوى ابروتوكوليا من صاحبه إمعانا في إظهار تعمد عدم بثه، وليكون التصرف رسالة.. وفعلا كان رسالة ولكنها لم تكن مفاجئة، فالبلد يعرف أهل وده..