منظومة المحظرة نموذج تعليمي فريد أبدعه أهل هذه البلاد، فأَهَّلهم لأن يكونوا البداوة العالمة الفريدة عبر تاريخ الحضارة، وقدم النموذج المحظري إسهامات جليلة، وَبَذَّ خريجوه الأقران في مصر والحجاز، فكانوا بحق سفراء علم ومعرفة، كتبوا الشهرة والخلود لبلاد شنقيط.
وبفضل جامعات الصحراء وجهادها وجلادها حفظ الله على الأمة دينها ولسانها العربي المبين، ونشطت حركة المقاومة الثقافية للمستعمر، وافتدى الناس بَنِيهِم بالغالي والنفيس لئلا يلتحقوا بـ"مدارس النصارى"، واضطر كثيرون للهجرة والاختفاء هربا بفلذات الأكباد، ولولا هذا الوعي الثقافي المبكر لقطع الغزو حاضر الأمة بماضيها، ولما كان للشخصية الشنقيطية تميزها مَغربا ومَشرقا.
وقد فشلت المنظومة التعليمية الرسمية بعد الاستقلال في تبديد الهواجس التي ورثها الأهالي من حقبة الاستعمار، مما أخّر التحاق البعض بالتعليم النظامي، ولم تُبذل جهود كافية للمواءمة والتكامل بين المنظومتين المحظرية والنظامية، ومع ذلك ظلت المحظرة رافدا مهما يَمُد المدرسة ويؤسس لها، وكانت المدرسة بدورها حضنا لطلاب المحاظر، تمنحهم فرصة التكوين والحصول على شهادات عملية.
ومع اتساع رقعة التعليم النظامي وارتفاع نسب التمدرس، وبروز تحديات ومخاطر تهدد نموذج المحظرة، تتصل أساسا بالمناهج والموارد والهيكلة، أضحى لزاما على الفاعلين التربويين والمحظريين وضع خطط للتكامل بين المنظومتين، تكون دليلَ عمل، وخارطةَ طريق للمرحلة، وعونا للأهالي على الجمع بين التأسيس المحظري السليم، والدراسة النظامية التي تفرضها متطلبات الحياة المعاصرة.
لماذا التكامل؟..
لن يكون لمساعي المواءمة والتكامل بين المنظومتين الأثر المرجو ما لم يبادر الفاعلون التربويون إلى فتح حوار مجتمعي حول أزمة التربية والتعليم، والسعي لتعميق وعي أولياء الأمور بضرورة الاستفادة المثلى من المنظومتين، وكيفية التغلب على ما يعترض ذلك من مصاعب، وفي تقديري تتمثل أهم مسوغات الجمع بين المنظومتين في الآتي:
التأسيس التربوي الشامل للمسلم الصالح ضرورة للعيش في الزمن الصعب، وتعقيدات الحياة المعاصرة تتطلب تأهيلا متوازنا: علميا ومهاريا وسلوكيا ووجدانيا.
لا جدال في عمق وأصالة الدرس المحظري، وأهميته للتأسيس والتفوق في الدراسة النظامية، ولا خلاف أيضا في أهمية الدراسة النظامية، فبدونها يعاني الطالب المحظري فجوات معرفية، وغيابا للتكوين والتأهيل اللازم لأداء الفروض الكفائية التي يحتاجها المجتمع المسلم.
باءت محاولات "التأسيس المزدوج" بالفشل فلم يبق غير التنسيق والتكامل، إذ لم تُوَّفَّق تجاربُ عصرنة المحظرة في تقديم دراسة نظامية إلى جانب المحافظة على أصالة وعمق الدرس المحظري، تماما كما فشلت المؤسسات النظامية في تعويض دور المحظرة.
غياب التنسيق والتكامل بين المنظومتين أدى لضياع أجيال من نشء الأمة، لم تتلق في المحظرة التأسيس اللازم، وفاتتها فرصة الالتحاق بالمنظومة الرسمية، فخسرت في الحالين.
هواجس ومخاوف القلاع المحظرية من الدور السلبي للمدرسة موضوعية في جانب منها، لكن المنع القسري للأبناء من التمدرس خطر بل جناية على مستقبل الجيل، ذلك أن الطالب المحظري حين يشب عن الطوق ويتجاوز مرحلة الطفولة سيكون عرضة للتسرب بل والضياع لا قدر الله.
ما تتهم به منظومتنا التعليمية من تقصير في الجانب التربوي يشاركها فيه الشارع والبيت والمحظرة، لذا فإن الإصلاح يكون بتكامل وتنسيق الجهود بين وسائل التنشئة مجتمعة، وتعاونها على سد الخلل وتجاوز القصور.
حققت تجارب التنسيق والتعاون بين المنظومتين على ندرتها نتائج هامة، أثمرت تفوقا دراسيا مع حفظ كتاب الله عز وجل، وتعلم ما لا يسع المسلم جهله من علوم الدين وسائل وغايات.
آليات التكامل:
أستعرض هنا مقترحات عملية، يمكن اعتبارها مدخلا للتكامل وآليات تنفيذية يسترشد بها من يهمهم الأمر:
أولى الخطوات: تغيير القناعات السلبية، وتعميق الوعي بضرورة التعاون والتنسيق بين المنظومتين وصولا إلى التكامل.
قد يكون التعليم الحر أكثر مرونة، وأقدر على عقد شراكة فعالة مع منظومة المحظرة، واستقطاب طلابها ومعالجة ما قد يكتنف الموضوع من تعارض في الجدول الزمني.
يبدأ التكامل بسماح الجهات المسؤولة لطلاب المحظرة في مراحلهم الأولى بتجاوز مستويات مدرسية، بعد عملية تقييم شاملة، فالمحظرة في مرحلة التهجية والتأسيس أكفأ من المدرسة، وأقدر على فتق اللسان بترتيل آيات الذكر الحكيم.
يكون التكامل في تقديرنا وفق النماذج المرحلية التالية:
"نموذج المدرسة أولا": ينتظم الطالب في المدرسة بشكل تام، على أن تقدم له المحظرة برنامجا ميسرا مكملا، يتواءم وظروفه وإمكاناته وجدوله الزمني، وستكون لذلك آثاره العميقة على المستويين المتوسط والبعيد.
"نموذج المحظرة أولا": ينتظم الطالب في المحظرة بشكل تام، على أن تقدم له المدرسة تقوية في المواد المكملة، وهو ما يتيح له الاندماج في المنظومة التعليمية عند الحاجة، أو الحصول على التكوين اللازم على أقل تقدير.
"نموذج التكامل أو الشراكة": في مرحلة متقدمة وبعد تقييم التجربة والحصول على الموافقات اللازمة يمكن أن تتكامل المنظومتان فتقتسمان المقررات الدراسية، وتضعان خطة تجنب الطالب الازدواج، وتوفر عليه وقته وجهده.
هذه المقاربات صمام أمان للمنظومتين، وشرط لبقاء النموذج المحظري بأصالته وعمقه.. معها تبقى المحظرة محظرة والمدرسة مدرسة، ونتجاوز هذا الارتباك الحاصل، والتعارض الذي يدفع الأبناء فاتورته كل يوم.