كنت قد كتبت هذا المقال قبل خمس سنوات. وهو يرسم لوحة لبعض مئاسي البلد، وفوجئت لدى عودتي قبل شهر لبلدي أن هذه الصور لم تتغير رغم أن ثلاثة رؤساء وعدة حكومات أشرفوا على البلد بعد عام 2005. المقال نشر في المرصد في 21 من فبراير 2005..
(1) يخرج أحمد كل صباح من منزله بالحي الشعبي المعروف بملح. يخرج من بيته تشيعه نظرات أطفاله وتعويذات أمه. يخرج ليبدأ يومه طلبا للرزق بوسيلة التحصيل الوحيدة: السيارة. سيارة أجرة يخيل إليك عندما تراها أنها الشيء الوحيد المتبقي من آثار الأقدمين!!
يخرج أحمد لكن صورة أفراخه تخرج معه، بل إنها في الحقيقة لا تفارقه! أفراخ صغار “ما اغتذوا خبز ملةٍ * ولا عرفوا للُبر مذ خلقوا طعما”. يبدأ يوم عمله وعندما يصل إلى أول ملتقى للطرق عند الرابع والعشرين, يأمره ” شرطي المرور” بالتوقف. يتوقف وسط لعنات الركاب الذين أخذ من على قارعة الطريق قبل قليل!
“أوراقَ السيارة” يطلقها “شرطي المرور” و بلهجة إقطاعييي القرون الوسطى في أربا!. فيدخل أحمد يده النحيلة في كيس لعبت به يد الزمان ليخرج رزما من الورق تتضمن كل ورقة يمكن أن تخظر لرجل المرور على بال.
يأخذها الشرطي وينظر إليها “نظرَ السقيم إلى وجوه العود” ثم يهرول ليوقف سيارة أخرى.. وكأن صاحبنا أداة تسلية لا أكثر ولا أقل. يبدأ أحمد في صب اللعنات على كل شرطي رآه في حياته شاكيا للركاب من أن كل الأوراق المطلوبة عنده!
“لن تبرح الأرض إلا بعد دفعها”, تقول السيدة الجالسة في الخلف وهي تعبث برطف ملحفتها. تقلوها دون حاجة إلى تفسير الضمير..
ولحضوره بكل ذهن* عن ذكره بمضمر أستغني!.
بعد التعب من التزلف والتذلل للشرطي النحيل ترجل أحمد مع الشرطي ودس”ها” في يده فانفرجت أساريره وأطلق سراح رزمة الورق!.
(2)
زينب في الأربعين من العمر. تعاني من مرض في المسالك البولية منيت به قبل فترة وحول حياتها إلى جحيم. كان هذاالمرض بالنسبة لها جحيما لكنه أطلعها على ما لم تكن تتخيل وجوده في الدولة التي كانت ترى في التلفازالرسمي. نعم كانت تعرف من خلال ما تسمع أنها دويلة متخلفة لكنها ما كانت تتخيل إلى أي حد! تظل تجر جهاز التبول في ممرات “مستشقى انواكشوط الكبير” دون أن تعار أدنى اهتمام.
تمر بها فترات يتعطل الجهاز وتود التبول لكن دون فائدة. يأخذها أهلوها إلى الحالات المستعجلة وهي تئن لكنهم يفاجؤن بالطلبات المالية التي يطالب بها المشرفون والعاملون في الحالات المستعجلة! يطالبون ببعض الرسوم التي لاتستطيع زينب دفعها كل وقت. وحتى إن استطاعت، فإن الألم وحرج اللحظة يمنعانها من ذلك، فينبذونها في الركن “نبذ الحذا المرقع” حتى يأتي ذووها بالإبر والمضمدات التي ستعالج بها…..بعد ذلك يؤذن لها!.
(3)
امبارك وصل قبل سنوات من قريته التي تربى فيها ودرس حتى السنة السادسة فاضطرته ظروف العائلة للبحث عن عمل. انتهي به البحث إلى بيوتات أحد المترفين في تفرق زينة. بدأ امبارك عمله بكل تفان وأحب الأسرة التي عمل لها من كل أعماقه.
كان يجد المتعة في أداء المهمات المكلف بها وتلك التي لم يكلف بها ولا تدخل تحت الاتفاق المعقود بينه وبين القوم. يقوم بدور الأم في الاعتناء بالأطفال، يكنس كل جحر داخل القصر الفسيح، يسوق السيارة..ولشدة ثقة صاحبنا بالقوم أصبح لا يطلب منهم أن يدفعوا له أجرته، بل إن فكرة قفزت إلى ذهنه وهي أن يترك راتبه يتراكم حتى يجتمع له مبلغ يستطيع به أن يؤسس مشروعا تجاريا صغيرا!
عندما تأكد امبارك أن حسابه الآن بلغ زهاء 150000 ألف أوقية ألح في طلبه مما لم يعجب ربة المنزل المترفة المتغطرسة. دخل عليها امبارك ووقف أمام غرفتها باسما وقال ” أريد راتبي” ما زادت المنعمة على أن رفعت مرقق الحواجب الذي كان بيدها وواصلت تزينها. وفي الأثناء رن الهاتف فكان “رجل آخر” على الخط الآخر.
بعد أخذ ورد من هنا وهناك تتخله ضحكات لا تنبئ عن كبير خفرٍ انتهت المكالمة وعادت سيدة القصرإلى الانهماك في أصباغها وأدوات زينتها، فأعاد امبارك طلبه بكل أدب.
نهرته قائلة وهل لك علينا من دين؟ أجاب بابتسام وهدوء تامين: “أظن ذلك”. التفتت السيدة إليه قائلة: “سنرى!”
على تمام الساعة الثالثة ظهرا وبعد أن انتهى امبارك من إعداد الطعام وتنظيف الأواني ناداه أحدهم بأن شخصا ما ينتظره عند الباب. خرج الرجل مسرعا ليجد شرطيا ينتظره. تبادلا التحية فطلب الشرطي من امبارك أن يذهب معه إلى المفوضية لأمرضروري. ما إن دلف امبارك إلى المفوضية حتى استقبل بأول صفعة يتلقاها في حياته!
انقض عليه رجلان من رجال الأمن وبدءا يضربانه على كل مكان من جسده بسياط الحديد. كان الضرب لا يوصف ألما لكن ألما من نوع آخر كان أقوى: ألم السؤال الذي ألح على مبارك “لماذا يفعل بي هذا؟” إذ لا يعرف ما هي التهمة.
بعد أن أشبعوه ضربا رموا به داخل زنزانة ليجد أمامه أوجها يراها لأول مرة. رأى وجوها شاحبة قلقة! لا تمعن النظر فيها إلا واستبد بك شعور غامض يمتزج فيه الخوف بالرحمة! بقي مبارك هناك يواجه التعذيب كل يوم لكن شغله الشاغل الآن إنما هو استعراض حياته وفك رموزها. أصبح يتعامل مع نفسه وكأنه شخصان: مبارك الذي يعرفه بسيطا باسما يحب الناس والناس يحبونه، وامبارك المجرم الموجود خلف القضبان.
استعاد كل صفحة من صفحات حياته و نثرها بين يديه. أوّلها ألف تأويل لكنه لم يجد ما يدينه!
بينا هو يفكر في كيفية الحصول على طريقة ما للاتصال بمن يعمل معهم لأنقاذه إذ جاءه أحد الشرطة بمحضر ليوقع على التهم الموجهة إليه. فوجئ بأن “ربة المنزل” تتهمه بسرقة هاتفها الفاره الذي تبلغ قيمته بالتمام والكمال 150000 ألف أوقية!!.
من ذلِ أحمد أمام الشرطي المتجبر النحيل.. واستغاثات زينب في ممرات المستشفى الكبير, وبقاء امبارك في مخفر الشرطة دون نصير, تتشكل الصورة الحقيقية المعبرة عن قصة التردي في بلدي!!!!