في تقديري، لن تحتاج موريتانيا بعد اليوم، لنظام سياسي "régime politique" ولا لرجل قوي "homme fort" على غرار النمط المألوف في البلدان النامية، يستحوذ على السلطة وينشغل بمقومات تأبيد حكمه لأطول مدى ممكن. بل ستكون موريتانيا بحاجة ماسة إلى بناء مؤسسات قوية وإلى طاقم عمل " "team work مستنير، يكون رئيسه مقتنعا بأنه ليس مخلصا سماويا، ولا قائدا فذا ولا عبقريا ملهما، بل إن مهمته تنحصر في خدمة موريتانيا بكل تواضع وإخلاص وجدية، واستقامة، ضمن فترة زمنية محدودة سلفا.. وأن يكون على يقين بأن الشعب سيحاسبه على هذا الأساس فحسب، وليس لأية اعتبارات أخرى..
بعد اليوم، لن يكون الموريتانيون بحاجة للجوء إلى ممارسات التزلف والنفاق والتهافت على المناصب والمسؤوليات العمومية مقابل امتهان الكرامة والضمير، وارتهان المثل الأخلاقية والمهنية والإنسانية في بورصة نخاسة الولاءات السياسية المعاصرة، مقابل حفنة مزايا مادية مهما كانت طبيعتها..
بعد اليوم، لن يكون أي مرشح بحاجة لشراء الذمم والأصوات وبطاقات التعريف.. ولن يكون القائمون على مختلف المرافق الإدارية بحاجة لعرض خدماتهم الحميمية، خوفا وطمعا، على أي مرشح.. أو طامح للوصول إلى السلطة..
بعد اليوم، سنحلم جميعا بموريتانيا متصالحة مع ذاتها.. ومع ضميرها الجمعي.. وقيمها الروحية والإنسانية التي تمجد الحق والعدل، والإنصاف.. والجد، والإستقامة..
ضمن هذا الأفق، أعتقد بأن على النخب الوطنية، مهما كان تموقعها السياسي أو الأيديولوجي، أن تساعد المواطنين بأسلوب كيس، على تجاوز مسلمات زائفة، نسجتها على مدى عشرات السنين، ممارسات سياسوية متحذلقة، حول أسطورة أن موريتانيا لا بد أن تحكم من طرف نظام حكم خارق مثل التنين، له رأس كبير، وأذرع طويلة وأرجل زاحفة، وحلقات متفاوتة متصلة فيما بينها.. وأن هذا النظام إن لم يوجد فعلينا أن نخلقه.. وأن نسلمه أقدارنا.. ومقاليد بلادنا.. ونبقى نسبح بحمده إلى أن يختفي ذات يوم كما ظهر أول مرة، لنبدأ من جديد رحلة البحث عن نظام بديل، نبيعه رماد لعناتنا.. ونصب جام غضبنا على النظام الذي سبقه..
في اعتقادي، يجدر بالموريتانيين أن يضعوا حدا لرحلة التيه والعبثية السياسية هذه..
علينا أن نصدق بأن عصور الإمبراطوريات والإقطاع والسياسي والدكتاتوريات المستنيرة، أو مقولة المستبد العادل.. قد انتهت إلى غير رجعة.. بما لها وما عليها.. وأن ما تحتاجه الشعوب والدول في عصرنا هذا، هو أسلوب متميز في الحكم، يقوم على فن التدبير التشاركي، والحكامة الرشيدة.. والقدرة على صناعة القرار المناسب بالاعتماد على استيعاب المعطيات، واستغلال المصادر البشرية النوعية في تدبير الملفات، وبناء مقاربات تحليلية ناضجة في رسم السياسات العمومية، وتنفيذها ومتابعتها.. ولم تعد روح العصر ملائمة لممارسة السلطة بالطرق الملتوية، والإحتفاظ بها من خلال أساليب الزبونية، والاعتماد على الفراسة والتنجيم، أو تجربة الخطأ والصواب إلى ما لا نهاية له..
في عضون بضعة أشهر فقط، ستكون موريتانيا على موعد لن يتكرر إلا كل خمس سنوات، يتيح إمكانية تحقيق هذا الحلم.. عبر صناديق الإقتراع.. وبطريقة سلمية وحضارية سلسة.. تحقق التناوب على السلطة وتعيد فتح أبواب البلاد على آفاق غد أفضل..
إن ما تحتاجه موريتانيا- التي لا يتجاوز عدد سكانها أربعة مليون نسمة، وقد حباها الله بمساحة تتجاوز المليون كلم مربع، تزخر بمختلف أنواع الخيرات والمصادر الطبيعية برا وبحرا- ليس معجزة خارقة.. ولا تعويذة سحرية .. ولا بطولة نادرة..
أليس حريا بالموريتانيين أن يبحثوا ليس عن "نظام منقذ".. أو "قائد ملهم".. يتحلقون حوله كالدبابير، أو يسلطه بعضهم على بعض سوط عذاب؟ أليس الأولى بهم أن يبحثوا بكل بساطة، عن رئيس "فريق عمل" ناجح، يخدم موريتانيا بكل تواضع، وإخلاص وجدية واستقامة؟ فيؤدي دوره بأمانة.. ثم يرحل عن المشهد بسلام.. وبدون ضجيج..
فهل ستشمر النخب وقادة الرأي في هذه البلاد عن سواعد الجد، للكف عن توريط البلاد في مغامرات سياسية خطيرة، ووضع حد لصناعة الاستبداد من خلال تفريخ "الأنظمة" و"القادة" ثم الإكتواء بنارهم لاحقا؟