بكائية في تأبين فارسي المهجر سعيد فخري وأحمد مخدر
"عندما اقتحم النخل جنوب أوروبا فاتحا، حمل معه النور والحضارة؛ ما جعل بعض عارفيها مثل الروائي الفرنسي أناتول فرانس وآخرين يصفون بحق يوم تراجع العلم والفن والحضارة العربية في معركة بواتييه أمام الهمجية الإفرنجية سنة 732 م بأشأم يوم في تاريخ فرنسا وأوروبا.
وعندما هاجر الأرز الشامي إلى إفريقيا ضرب شرايينه في الأرض ومد أطنابه في السماء، سندبادا فينيقيا، يحمل في صدره ثقافة وفكر ومثل نهضة العرب الواعدة، ويحدو الثورة على الاستعمار الفرنسي قديمه وجديده" فسطر هنالك ملحمة تاريخية ما تزال بعض فصولها مجهولة لم تكتب بعد.
وفي هذا التأبين الرمزي المستحق لفارسين من فرسان المهجر الإفريقي هما سعيد فخري وأحمد مخدر –رحمهما الله- نميط اللثام عن فصلين بديعين من ملحمة المهجر الشامي، عموما؛ واللبناني خصوصا في إفريقيا الغربية:
الفصل الأول: الاستكشاف "في البدء كانت الكلمة"
كان لهذا الفصل من هذه الملحمة رواد نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الأستاذ محمد يوسف مقلد، والشيخ المختار ولد حامدٌ؛ سفارة الاستكشاف والثقافة والصحافة: كاتبان وشاعران و"تاجران" مهاجران أيضا...
* محمد يوسف مقلد: شاعر وأديب وكاتب من الجنوب اللبناني طوحت به طوائح الزمن الاستعماري الفظيع إلى إفريقيا الغربية (وإلى السنغال تحديدا) بحثا عن العيش، فكان أقسى مما تصور لشدة شظفه في المستعمرات أثناء الحرب العالمية، وظلم وعنصرية المستعمرين واحتقارهم واستغلالهم للشعوب المستعمرة. فلنستمع إليه وهو يندب حظه العاثر في مهجره بالسنغال:
رأيت العيش في السنغال ضربا من الكدح الذي لا خير فيه
فهبك نجوت من طفل صغير فإنك غير ناج من أبيه
وهبك شكوت أمرك للفرنسي لينصف يزدريك ويزدريه
وفي خضم مأساته المادية الأليمة، ابتسم له حظ أدبي نادر أنساه شقاءه وشغله بهمّ آخر غير نكد التجارة والبحث عن لقمة العيش، وأيما حظ؟ فها هو ذا يكتشف صدفة في مدن مهجره القاسي وعلى ضفافه الشمالية عرب إفريقيا الغربية "البيظان"! فيهيم بهم ويشتغل بالاتصال بهم والتعرف عليهم والتعريف بهم، ويترجم حبه كتبا عنهم فيقول:
للضاد في إفريقيا رايـــــة خفاقة رفرافة عاليه
يرفعها العرب بنو عمنا الــبيضان أهل الهمة الساميه
هم ناشروها هم أساتيذها هم حصنها هم درعها الواقيه
ترجمت حبي كتبا عنهمُ تحمل من لبنان أشواقيه
إن الذكا كل الذكا كائن تالله بين النهر والساقيه
عروبة تجمعها وحدة كبرى بتلك الأربُع النائيه.
لقد نقلت سفارة الأرز على يدي محمد يوسف مقلد موريتانيا من النسيان في بياتها السرمدي جاثية في منتبذ قصي بين "شطآن" المحيط الأطلسي ونهر صنهاجة ومجابات الصحراء الكبرى، فقذفتها بين يدي العرب في فجر نهضتهم ليقطروها إلى الأمام؛ تماما كما ألقى الفتى الشيخ محمد سالم ولد عدود بأدب القبيلة والقبيلة معا في أتون معمعة التحرير ومقاومة العدوان الثلاثي بقطعته الرائعة التي كانت باكورة نهضة الأدب الموريتاني الحديث ووعيه بهموم عصره؛ والتي مطلعها:
"ومدلة بالحسن قلت لها: قري إن الجمال جمال عبد الناصر"..
ومن بين ثمار سفارة الأرز كتاباه: "موريتانيا أو العرب السمر في إفريقيا" وهو كتاب تزامن صدوره مع الاستقلال وبزوغ الدولة الموريتانية إلى الوجود، وكتاب "شعراء موريتانيا" الذي عَرَض بدوره كنوز أدب ما بعد الوسيط؛ رابطا إياها بالكيان الجديد ومنوها بالعبقرية الموريتانية.
* الشيخ المختار ولد حامدٌ. عالم وشاعر من الجنوب الموريتاني طوحت به هو الآخر نفس الظروف التي طوحت بيوسف مقلد إلى إفريقيا الغربية (وإلى السنغال تحديدا كذلك). فلنستمع إليه هو الآخر يشكو صروف دهره التي أرغمته على الهجرة، ويحن كميسون بنت بحدل، إلى جنته البدوية المفقودة، ويندب حظ مهجره العاثر:
غنينا في انتجاع خلا المراعي حوالي كل راعية وراع
سنين حلا انتجاع الرعي فيها لنا وخلا لنا جو المراعي
حدونا إبْلها مع كل حاد وعاعينا بها مع كل عاع
فجاءت بعد ذاك صروف دهر دعتنا للشراء والابتياع
دعانا من صروف الدهر فيها إلى المكيال والميزان داع
نقيم الوزن ثَمَّ بكل كيل ونوفي الكيل ثَمَّ بكل صاع
كأن لم ننتجع في الدهر مرعى خصيبا ما به أثر انتجاع
ولم ننزل من الصحراء أرضا بساطا كالسماء في الاتساع
ولم نسمع بها والغيث هام هزيم القرم في الشول الرتاع
وقد سكب الذراع بها دموعا جرين على التلاع وكل قاع
وقد ضحكت من الأزهار فيها كواكب كالمجرة والذراع
فإن ترني لدى الحانوت أشري به وأبيع من سقط المتاع
فإني سوف أنشد عند بيعي: أضاعوني وأي فتى مضاع.
ولنتركه يحدثنا عن نفسه وعن ذلك اللقاء الذي خلق منه باحثا وكاتبا ومؤرخا، حين تلاقت وتلاقحت ثقافة وفكر المحظرة الموريتانية الأصلية بثقافة وفكر المشرق العربي في أرقى وأبهى حللهما وأشكالهما التي مزجت بين عراقة وسمو نهضة المنبع وجموح وحداثة "المهجر":
"كنت في عام 1936 م أعمل تاجرا في كولخ، فجئت ذات عشية إلى تاجر سوري فاشتريت منه كيسا من الصابون، فدخل علينا شامي يدعى إميل، فقال لي التاجر: هذا شاعر العرب، فقلت له: وهل يوجد شاعر العرب إلا في البيضان؟! فقال لي إميل: لعلك شاعر، فقلت: نعم، فقال: أنشدني، فأنشدته أبياتا، فقال: عندي أحسن من هذا، وأنشدني أبياتا، فقلت له: هذا أحسن من أبياتي، ولكن من أين لي أنها من إنشائك؟ فلنصف هذا الكيس، فأينا أسرع بديهة وأحسن شعرا فهو شاعر العرب، فقال لي: ما ذا يقول واصف كيس الصابون؟! فقلت: يعرفه الشاعر، فقال: لا يعرفه الشاعر ولا الناثر، فقلت: أنا أعرفه، فقال: ما ذا تقول: قلت: أقول إنه في صندوق من الخشب، مكعب معصوب، وفيه انكسار يبدو منه صابون رديء غال عندك ولا تسلفه لعملائك. فقال لي: أنت ظريف، وأريد منك لقاء الليلة في دار الحاج علي بيضون السوري، فجئناه ونحن خمسة نفر فوجدنا معه جماعة من أدباء العرب السوريين واللبنانيين فسمرنا معهم...
ثم بعد عدة محاورات مع هؤلاء العرب لقيني الأديب زكي بيضون فقال لي: اكتب عن البيظان لتعرف العالم العربي بجزئه هذا الذي ليس له علم به. فبدأت من ذلك الحين -على عُجري وبُجري- ألتقط من أفواه المسنين ومن بطون الأوراق ما استطعت، وكان تحصيلي قليلا لاشتغالي بمهنة البيت والكد للمعاش، مع قلة ذات اليد وكثرة المؤنة، فتوظفت في التعليم خمس سنوات، وفي المعهد العلمي لإفريقيا السوداء سبع سنين، ثم في المعهد العلمي بأبي تلميت سنتين...".
ومن نتائج هذا التلاقي والتلاقح كذلك ما للشيخ المختار، صاحب الدكان في كولخ، عملا بنصيحة الأستاذ زكي بيضون من دور ريادي في نهضة موريتانيا الثقافية وتأسيس دولتها، ثم في إنجاز موسوعته التاريخية الجامعة التي انتشلت ودونت وحفظت تاريخ موريتانيا من عاديات الزمن!