مساء تنصيب أوباما، كنت في مؤتمر صحافي في جوهانسبرغ، وفوجئت بأحد الزملاء يسألني: «ما هي خططك لتغطية تنصيب أوباما؟» ففهمت سؤاله، لكني أجبته ساخراً: «سنغطي التنصيب بواسطة مكتبنا في واشنطن». لكن زميلي أردف: «أقصد تغطيتكم لردود أفعال الناس هنا واحتفالهم بانتخاب الرجل».
لقد جُنت جنوب إفريقيا، وجُنت القارة السمراء من ورائها عندما تم انتخاب باراك أوباما. ففي شوارع جوهانسبرغ بيعت قمصان تحمل صورة للرجل يظهر فيها جنباً إلى جنب مع مانديلا، (مع الفارق في الإرث النضالي والبعد الإنساني) وفي يوم تنصيبه تم وضع شاشات ضخمة لعرض مراسيم تنصيبه، كما قام الكتّاب والساسة بمقارنة خطاب تنصيبه بخطاب نيلسون مانديلا عام 1994 بعد سقوط نظام الفصل العنصري. فما الذي جعل العالم من أقصاه إلى أقصاه يهتم بباراك أوباما ويجعل انتخابه فتح الفتوح؟ أحسب أن ذلك يرجع إلى ثلاثة عوامل رئيسية، وغيرها لها تبع. - قوة الصورة وسلطتها: فقد لعبت الصورة المتلفزة القادمة من الولايات المتحدة (حيث أباطرة الإعلام والعلاقات العامة والهوليودية وفنون التلميع) دوراً في خلق صورة سحرية لرجل أسمر السحنة قادم من مدائن خربة سيملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً. فقد احتلت صورة الرجل شاشات التلفاز حوليْن كاملين يظهر خلالهما في أبهى حلله وعن يمينه زوجُه التي ما فتئ الإعلام يصورها هي الأخرى باعتبارها سيدة أسطورية. هذا الظهور الدائب جعل كل من يشاهد التلفاز مرتبطاً بطريقة أو بأخرى بهذه الشخصية السحرية، تماماً مثل ارتباط الدهماء بممثلي هوليوود. - سحر البيان: بدا أوباما خلال رحلته الطويلة نحو البيت الأبيض خطيبا مفوها وكاتبا محترفا، فقد استنفد ما وسعته اللغة الإنجليزية من جمل براقة وشعارات أخاذة ليبهر بذلك عقول وقلوب الملايين المتحلقة عِزينَ حول أجهزة التلفاز في العالم. إن اللغة تفعل فعل السحر في المجتمعات القوية المتوازنة التي ما زال للكلمات فيها وزن. فبمجموعة من الشعارات البراقة والعبارات الرنانة أخذ أوباما كل شيء ولم يعطِ أي شيء. فبشعاره «التغيير» استطاع أن يغير ميزان القُوى لصالحه، لكن العالم لم يسأل نفسه أي «تغيير» يتحدث عنه أوباما؟.. إنها متاهات اللغة. - توق العالم إلى مخلص: إذ يبدو أن البشرية اليوم بعد أن تمايزت على أسس المصالح الاقتصادية البحتة، وظهرت بمظهر قطيع يأكل الغنيُّ فيه خبزَ الفقير بقوة القانون والاتفاقيات، تهفو أفئدتها إلى أي مخلص يمكن أن يساهم في كفكفة دموع المظلومين والجوعى والمعذبين في الأرض. هذه النزعة هي التي جعلت الناس يصنعون من أوباما شخصية أسطورية سيكون لها تأثير إيجابي على العالم كله. لكن نظرة متأنية لمزاج القوى الكبرى التي أوصلت أوباما إلى السلطة تثبت أن الوضع لن يتغير، فأوباما رجل أوصلته شركات كبرى إلى العرش من أجل تنفيذ مصالحها، إذ لم تتبرع له شركة «لوكد مارتن» المنتجة للأسلحة بمبلغ عشرة بلايين دولار ليملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً، وإنما ليملأها خيلاً ورجلاً حتى تجد أسلحتُها التي تنتجها نَفاقاً ورواجاً. إن نظرة أولية لإدارة أوباما بعد أن انجلى الغبار تثبت أن الرجل ما هو إلا رئيس أميركي بارد آخر، فرغم أنه قال في خطاب تنصيبه إنه آن الأوان للتخلص «من الوعود الكاذبة والدوغمائيات التي شلت السياسة الأميركية طويلاً»، إلا أنه انحنى راكعاً أمام أول تعيين غير تقليدي قام به (تعيين فريمان). كما جزمت نيويورك تايمز (عدد 14/03/2009) أن «تعامله مع سجن غوانتانامو من الناحية القانونية رمزي يهدف فقط إلى وضع حدود رمزية بين سياساته وسياسات إدارة بوش». لكن يبدو أن الظاهرة الأوبامية بدأت تذبل.. ويبدو كذلك أن البشرية أصبحت تتمتع بقدر لا بأس به السطحية، حيث أصبحنا نعيش في عالم هوليودي تطوعنا فيه الصورة المصنوعة… فنهلل للبطل الأسطوري ثم نخرج من قاعة العرض ونكتشف أننا كنا نطارد خيوط الدخان ونجمع غبار الماء.