كانت مسيرة مظفرة حافلة بمكونات شعب أبي أراد لنفسه العيش و التعايش في أمن و أمان.
كانت كذلك مسيرة حاشدة كشفت خبايا وخفايا مكونات المعارضة التي بحت وتنحت أيام حمل أعلام النصر.
لقد كانت الدعوة دعوة وطنية للم الشمل وجمع الشتات في عصر احتدمت فيها الأنانيات واشتدت العصبية و التغني وبالأعراق فتصاعد التطرف في كل أنحاء العالم يحدوه ركب العولمة وتسلط السواق والجري وراء المصالح الخاصة بأنانية وقحة. لذا انتخبت أمريكا نهارا جهارا الرئيس اترومب ووصلت مارين لبين في فرنسا الى الدور النهائي في الرئاسيات واستفحلت أصوات كاتالونيا و ارتفع اليمين المتطرف في هولندا و أسوسيرا وكل البلاد الأوروبية تقريبا.....ولكننا استثناء من كل هذا و لا نريد دروسا من هذا و لا ذاك.
عجبا من هذه المعارضة لا يهدأ لها صوت حين تبرمج الانتخابات وحملاتها ولا تسمع لها ركزا أيام المصلحة العامة ونداء الوطن.
أما كان على المعارضة أن ترفع صوتها منادية بمحاربة الكراهية وخطاباتها وأن تتحمس إذ كانت وطنية أو إن كانت وطنية لصد أي تهديد لوحدتنا الوطنية بدل تصيد الكراسي النيابية أو الرئاسيات....
كانت المسيرة حملة لمصلحة الشعب وللشعب وليست حملة باسم الشعب. ولكي لا تتوقف المسيرةعند هذا الحد فإن رئيس الجمهورية جعلها مسيرة لإطلاق حملة علمية تركز على التعليم ثم التعليم ثم التعليم...
لأننا نريد لمجتمعنا العربي الإفريقي المسلم أن يرقى ويتقدم بالعلم والتعلم للتتكسر الفوارق الاجتماعية التي بدأت اليوم تتكسر بقوة وبدأ سيد الأمس يصبح مسودا اليوم حين يرفع العلم والتعلم المستحق بغض النظر عن مكونته الاجتماعية.
لقد انتهز رئيس الجمهورية هذه الفرصة وطالب الموريتانيين بالتعليم و التعلم بجد و مثابرة وإخلاص لتجاوز العقليات القديمة وولوج الحضارة والتقدم من بابهما الواسع وهو نداء يترجم غيرة رجل ضحى في سبيل هذا الوطن ومن أجل هذا الوطن وها هو يتنازل عن السلطة بمحض إرادته تاركا الباب واسعا لاختيار من تمكنه صناديق الاقتراع للوصول الى كرسي القيادة وهو موقف آخر يستحق الإشادة والإجلال والتقدير.
في هذه الظرفية إذن التي نادي فيها رئيس الجمهورية بالتوجه نحو العلم والتعلم و نتيجة الى أن دور السياسي حسب جان أبيير كوك Jean Pierre Cuq أن يطلق التوجيه ويعمم القرار وأن على مهندسي العملية التربوية من أساتذة و مفتشين و مربين أن يقوموا بمتابعة النسق المعماري حتى يتم البناء ويكتمل على أحسن وجه ضمن الإطار وتمشيا مع هذه التوجيهات نتقدم بهذا المقال إسهاما في الكشف عن متطلبات تعليمنا.
ما المدرسة؟ ما التعليم؟ ما أركانه وأسسه؟ ما العيوب التي ينطوي عليها؟ كيف نتغلب على المعوقات التربوية كلها أو بعضها؟ بكلمة واحدة، كيف يتم إصلاح التعليم؟
ما يفتأ المتردد على المحافل العامة والصالونات، يسمع بين الفينة والأخرى انتقادات لاذعة موجهة إلى تعليمنا أولا وحملة الطبشور ثانيا، قد نتلذذ بذلك فنردده دونما قصد وفي غير ما محل، وقد نستاء منه كآباء أو أساتذة أو أطر أو سياسيين أو مواطنين غيورين على هذا الوطن وعلى تعليمه.
الحقيقة تقال، فبالرغم من الإمكانات الهائلة التي ضختها وتضخها الدولة كل سنة في تعليمنا رغبة في إنشاء مؤسسات تعليمية ذات هيبة على غرار مؤسسات التعليم في العالم وتكوين مكونين أكفاء وطلاب وخريجين مهرة، ما يزال تعليمنا يتعثر ويتلكأ غير قادر على الوقوف على قدمين، كي لا نقول عنه إنه يتخبط في دمائه كدجاجة مذبوحة!؟.
فمم يشكو تعليمنا؟
التعليم، معلم يملي وطلاب يستمعون اجتمعوا جميعا في مكان معين، هو المدرسة ومن أجل هدف معين، هو تحصيل العلم.
عناصر العملية إذن هم: المعلم والمتعلم والمادة العلمية وطريقة تقديمها وكيفية ذلك ووسائل يبنى بها كل هذا.
الحمل موجود بالأرض وجميع العناصر المعنية به، عاجزة عن حمله وهي تتدافع الكرة وتتبادل التهم.
كل المشكلة في المعلم، علما ومنهجا ومادة وحضورا يقول لك الآباء والتلاميذ؛
لا الطلاب طلاب ولا الأهل مقتنعون بالمدرسة ولا الوزارة تسخر الإمكانات اللازمة يخاطبك المعلم.
أعددنا كل العدد ووفرنا الكتاب المدرسي وحولنا طاقما كافيا ولكن الآباء والتلاميذ هم كل المشكل حسب تعبير الوزارة، وهكذا...
فمن أين جاء الخلل؟
كل تعليم لابد أن تتوفر فيه بعض الخصائص العامة وهي:
توحيد التعليم لتوحيد المؤسسة الاجتماعية.
تخطيط تربوي سليم لسياسة تربوية سليمة.
تكوين مكونين أكفاء.
مراجعة البرامج وتكييفها.
ضبط المناهج وتيسيرها
ووسائل بواسطتها يتحقق كل هذا.
كل هذه الحلقات بثقلها وتمفصلاتها موصولة ببعضها البعض موجهة لركن أساسي هو لب الحدث ومرتكز العملية التربوية وهو التلميذ، فالبرامج والمناهج والوسائل والفلسفة التعليمة وحتى المعلم كلها مسخرة وميسرة لخدمة المتعلم لتحقيق الهدف المنشود وهو: التكوين وتحصيل العلم، فإذا كان المتعلم غير مهيأ فكريا ونفسيا للعملية وغير متحفز لها ترهل البناء ورجع الجميع صفر اليدين وتحولت العملية التربوية إلى باطل في باطل، فبدون هذا التحفيز الذي هو غير آني وإنما هو تحفيز مآلي، تحفيز نجاح في الامتحانات يتبعه فلاح في الحياة، لن نتمكن من تأسيس تعليم حقيقي.
تعليمنا اليوم يشكو من خمسة عيوب أساسية:
أنه تعليم موسوعي يقوم على التحصيل العشوائي وعلى معلومات مبعثرة ومشتتة لا رابط بينها ولا تساعد في بناء حياة علمية أو عملية، فالهدف أن تكون لديك معلومات فقط ولو أصبت بتخمة ثقافية.
هو تعليم يفتقد المنهج بحيث أن المعلومات غير منتظمة وغير منظمة وغير تراتبية وهي في الغالب تسيطر على صاحبها بدل أن يسيطر عليها ولا تنعكس على حياته الميدانية أو سلوكه في الحياة، وما قيمة علم لا ينفع.
هو تعليم يعتمد على الحفظ والاستظهار وهو ما قتل في شبابنا ظاهرة الابتكار والاختراع والصياغة من جديد وإعادة التركيب، بكلمة واحدة، الحفظ ينافي الفكر الخلاق، مع ذلك ما زلنا نطبل للذاكرة والحفظ ونطلق على صاحبها دون كبير عناء: عالم لأنه يحفظ مجموعة من النصوص ويرددها. بذا صار تعليمنا عقيما يخلو من أي جهد فيه خلق أو ابتكار وإنما القاعدة العامة هي الحفظ والتكرار وإعادة ترديد النصوص، نحن إذن في مرحلة "ببغاوية".
أنه تعليم يغيب فيه التكوين على مفهوم المواطنة والسلوك المدني وهو أحوج ما نحتاج إليه، لذا يغيب العلم والنشيد الوطني والاصطفاف أمام القاعات والزي الرسمي واحترام الممتلكات العامة واحترام قوانين وسلوكيات العمل في تعليمنا وهو ما انعكس على حياتنا العامة، حيث يعبث المواطن ببراءة بكل ما ينتمي للوطن غير آبه بحكم أو بقانون، هل نتذكر الجهد الذي بذلته الدولة من أجل تشييد شارع أكلينك المترهل وكيف تمت توسعته وبناء أرصفته وتدعيمه وتزويقه ورونقته، ثم جاء المواطنون ونزلوا عليه. يكفي أن تمر به اليوم أو من حوله، إن أمكنك ذلك، لترى كيف تحول شارع أكلينك إلى "كوريدا" قاتلة تذكرك بشياطين عبقر وقت المساء، يصول فيه البعض ويجول غير آبه بما خلق الله من القوانين وما نزل من الكتب السماوية، تتوقف الشاحنات إلى جانب الحمير والعربات إلى جانب التاكسي وفي قلب الشارع يحط البائعون وأطباء الأسنان المزيفة والخشابون والمشعوذون وأكداس مكدسة من الأوساخ تضاهي جبال الهامالايا في ارتفاعها، ترتع بها الأبقار والأغنام والديكة والقردة والكلاب والمتسولون وقطاع الطرق...، لا تفتقد من الركب إلا "المصبعون" (إشارة إلى هل تريد تبديل عملات؟) هؤلاء اجتمعوا زرافات ووحدانا على شارع آخر سيكون له ما بعد هو شارع السوق الكبير.و ما تحولت نواكشوط إلى عاصمة شمطاء إلا بسبب غياب تكوين صالح للمواطن الصالح.
المعوق الأخير أنه تعليم لا تجاوب فيه بين التكوين والحاجيات، فالمدارس والجامعات تكون في واد وحاجيات السوق والبلد في واد آخر، وهذا ما زاد من تفشي ظاهرة البطالة بين الخريجين وإفلاس التعليم وإصابة الطلاب بالإحباط بعد هدر طاقات الشباب في تكوين لا طائل من ورائه، فلا هو يعود بفائدة على صاحبه أو على المجتمع، خاصة بعد أن يتخطف بائعو الأحذية وبطاقات التزويد وسائقو السيارات والحرفيون وبعض المهاجرين المحظوظين فرص الحياة من أمام هؤلاء الخريجين فيتزوجون أجمل بنات الحي بأغلى المهور ويتقلدون المناصب السياسية والانتخابية ويتصدرون لوائح المجالس المحلية ويكون لهم النفوذ والكلمة الأولى لدى الأهل والأقارب والوجهاء. حينئذ تكون خيبة الأمل كبيرة وكبيرة جدا بعد مصابحة المدرسة ومصاحبة الكتاب فيتنامى التشكيك في التعليم وقدراته المعرفية بعد رحلات مكوكية طويلة وهذا ما لا نريده لتعليمنا ولا لشبابنا و لا لوطننا الحبيب.
فحين يفلس التعليم في بلد تتعالى أمواج متلاطمة من تهميش النخبة واحتقار مقاييس المعرفة والازدراء بمستويات الثقافة ينهار كل شيء ويترك الأمر بيد "المديوكروهات" فتنحط المعرفة وتنحط القيم والأخلاق الفاضلة، والمروءة وتنطفئ شعلة الإبداع والفكر والأدب والعلم ويكسر الكاتب ريشته ويتوكأ الموسيقار على آلته ويتخذ الفنان من خشبة المسرح مرقدا له وتتحول الصحافة إلى وعظة صوفيين والساسة إلى بهلوانيين ينافسون أهل الرياضة وينكفئ المعلمون على أنفسهم في البيوت كحراس للأصبياء يرتبون البيوت ويهيئونها للأسياد المزيفين، تنزح الأقليات والشعوب الخائفة من الظلم والقهر وتختبئ في الملاجئ بالجامعات، بالمستشفيات، بالمساجد، بالمدارس، بالملاعب... فتتحول منارات الإبداع والعطاء بلألأتها وأضوائها المشعة إلى ملاجئ تفضح آدمية الآدمية.