لم يكن سقف توقعاتي لبرلماننا الجديد أكبر من حجم شخوصه التي شخَّصَت كل التداعي و السقوط المجتمعي الذي نعيشه..
و لم أكن بدعا من المتابعين للشأن العام.. حين اعتبرت منذ تأكيد الترشحات أول يوم بأنه سيكون برلمانا بلا ملح(amoul khorom).
لكن ما لم أتوقعه و لم يتوقعه غيري هو كم التوابل و البهارات الغريبة التي طغت على جل المداخلات إلى اليوم..
****
رغم تأكيد السيد الرئيس مشكورا على عدم نيته تغيير الدستور و عزمه عدم الترشح لمأمورية ثالثة.. إلا أنني أزعم جازما أن ذالك كان في نيته أو على الأقل ظل خيارا مطروحا إلى وقت قريب.. و إن لم يكن غير وضعية البرلمان الحالي شاهدا لكفى به شهيدا..
نعم... فلقد تم اختيار شخوص هذا البرلمان من الأغلبية بطريقة تجعلك تجزم بأنه يراد لهم الانسياق قطيعاً وراء خيارات سياسية قوية لا تحتمل أي تردد أو تفكير.. و لم تكن الحملة البرلمانية الأخيرة لتغيير الدستور و الكم الهائل من نواب الأغلبية الذي صادق عليها في وقت قياسي إلا مصداقا لذالك..
كان الموديل البرلماني لحزب للأغلبية (أو personnas على لغة الماركتينج) المطلوب حينها هو شخص متوسط التعليم أو فاقده، فاقد المبدئية.. معدوم الخلفية الجماهيرية الشعبية.. معلوم النفاق... لتتشكل نتيجة لذالك أغلبية مشلولة لا تكاد تبين..
أما في الجانب الآخر من الطاولة.. فقد كان الاختيار أيضا غريبا و مريبا.. فلقد تراجعت كل أصوات الصف الأمامي من المعارضة التقليدية لتفسح الطريق أمام ظواهر صوتية أقرب إلى الطبول على رأي خالد الذكر المهاتما غاندي: تصدر أصواتا قوية و لكنها خاوية من الداخل.
لم يكن إختيار المعارضة لهذه الأصوات النشاز وليد الصدفة.. فقد فكروا و قدروا و اهتدوا من غير هدى، إلى أن الموضة الشعبَوية في ازدهار، و لا يليق تفويتها و عدم ركوب موجتها و الاستفادة من أكبر كم من الزبد الذي تخرجه.. لزيادة الحضور في برلمان بدى حينها الأهم في تاريخ الوطن.
و بين ذا و ذالك برزت أصوات شبابية بدت في ظاهرها حالمة و ملهمة، على دأب كل الحركات الشبابية في عالمنا، و التي لا تلبث تثبت الأيامُ سذاجتها و انقيادها وراء موجات تدميرية معنوية أو حسية.. لتنقلب في الغالب وباءً و نقمة على شعوبها...
***
تلك توطئة عن أسباب و حيثيات و ظروف تشكل هذا الخديج الأعرج و المصاب بانفصام شخصية مزمن من يوم ولادته، و الذي نسميه برلمانا.. جريا على العادة أو ربما من باب تسمية الشيء بمكان وجوده...
أجل.. تظل هنالك استثناءات بسيطةٌ و قليلة، لكنها لا تعدو أن تكون الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
****
بدأ "البرلمان" أول ما بدأ بصراخ و ضجيج مفجع.. يخيل للسامع أنه وسط "نقطة ساخنة" بكل أبواقها التي تصرخ في كل الاتجاهات و كأنما بها حولٌ...
هذه تصرخ بأنها لا تجد نفسها في وطنها لأنه لا وزير من بني عمومتها.. و ذالك يصرخ بأنه ما لم نقض على كل مجد تليد فلن تتحقق العدالة.. و ؤلئك يطالبون بالعبث بالدستور.. و ذالك يلمز بالألقاب و آخر يطلق الشتائم و السباب.. و بين هؤلاء و ؤلئك يضيع الوطن المسكين... فلا أحد يتحدث عن الشأن العام بتجرد.. و لا أحد يطرح البدائل أو التصورات.. بل لا أحد يفهم الدور الرقابي للبرلماني.. فيختلط عليه ذالك الدور مع المهرج أو السياسي الذي يستغل فرصةَ ظهورٍ إعلاميٍ لتمرير رسائل و أجنداتٍ خاصة..و خاصة جدا!!
طبعا.. تبقى بعض الأصوات الخجولة التي تحاول التدخل بين الفينة و الأخرى.. فتصطدم بحجم الشعبوية و الفراغ عند الغالبية لتعاود انكماشها الخجول... فبإستثناء مداخلتين اثنتين إحداهما لأحد نواب المعارضة و الأخرى لنائب من الأغلبية.. لا أعلم مما رشَحَ إلي من المداخلات ما يستحق وصفه بالبرلماني...
****
دور البرلماني في المؤسسة التشريعية يتجاوز انتماءاته الضيقة سياسية كانت أو اجتماعية، فهو و إن كان يمثل دائرة معينة أو حزبا معينا إنما يمثله في إطار الكل الجامع الذي هو الدولة و المجتمع.. و يجب أن يكون طرحه كليا و جامعا و أن يتسامي عن الحساسيات الفردية و يتناسى الانتماءات السطحية أمام المصلحة العليا التي هو مسؤول عنها..
أما اعتبار البرلمان مسرحاً خطابيا أو مهرجانا انتخابيا يُستغل لارسال رسائل سياسية.. او دغدغة مشاعرِ كتلة شعبية.. فذالك ضيق عطن و انسداد أفق لن يوصلنا إلا إلى ما وصلنا إليه من السباب و الشتائم و التعبيرات السوقية.. التي جعلت مبنى البرلمان أقرب إلى سوق شعبية منه إلى رمز وطني يجمع زبدة المجتمع و خيرة من يتحدث باسمه...
***
هذا البرلمان بتوابل صوتية فارغة.. لا يصلح لتمثيل المجتمع و لن يقدر بحال من الأحوال على رفع التحديات الاقتصادية و الإجتماعية بأكثر من الصراخ في كل الاتجاهات دون هدى... و هو في شكله الحالي ضرره أكثر من نفعه على المجتمع و الدولة... لذا فإني أطالب من الرئيس المقبل السعي إلى حله من أول يوم.. و أتمنى على الهيئات السياسية من أحزاب و حركاتٍ تغليب المصالح العليا للوطن و الأمة على الأجندات الحزبية الضيقة و تزكية مرشحيها علماً و فهماً و إيماناً بالوطن قبل عرضهم على الشعب..