مهما تكن مسوغات نزع تسمية شارع جمال عبد الناصر، وإعادة وسمه بشارع "الوحدة الوطنية"! فقد تكون لتلك الخطوة دلالات رمزية مقلقة، بل وبالغة الخطورة. وفضلا عن كون هذا التصرف مثل سوابق أخرى، يعكس ربما نوعا من سلوك رهاب الخروج من السلطة، فهو يجسد شعارا من صميم عقيدة الحزب الاشتراكي الإنجليزي في رواية 1984 لجورج أورويل، حيث يعتبر كل شيء خارج سياق تفكير الحزب الحاكم "جريمة فكر". خاصة إذا علمنا بأن فحوى ذلك الشعار هي: "من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل، ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي".
عموما، يذكرنا هذا المشهد بمسلكيات الدولة الشمولية، كما صورتها ببراعة أحداث وشخوص رواية 1984 لجورج أورويل، التي ترسم مسار تطور شبح اسمه الطغيان. فعندما يتم تركيز السلطة بيد واحدة، يبدأ عندئذ تشكل كائن جديد هو "الأخ الكبير" (Big Brother)، سواء كان فردا أو مجموعة أو مؤسسة. باختصار شديد، ظلت رواية 1984 ، تدقُّ ناقوس الخطر منذ حوالي سبعين سنة، محذرةً من مستقبلٍ قاتِم، يسود فيه الاستبداد والظلم، وينذر باندلاع الحروب والدمار.
ففي ظل السلطة المطلقة لـ "الأخ الكبير"، يخضع المجتمع لدكتاتورية فئة شمولية تحكم من خلال الحزب وأجهزة الدولة التسلطية التي تعتمد على أربع وزارات، هي وزارة "الحقيقة" لتزوير التاريخ وتحريف مقالات الصحف الأجنبية وتزييف الأخبار، ووزارة "الحب" التي تقوم بتعذيب النّاس وتعيينهم كجواسيس على بعضهم البعض، و وزارة "السلام" التي تختصُّ بشنِّ الحروب، وأخيرا وزارة "الوفرة"، التي تُعنى بتقنين كميات الطعام، وتحديدها من أجل ضمان إخضاع النّاس عن طريق التجويع.
ومن خلال هذه الأجهزة، تتحول الرقابة الحكومية والتلاعب الإعلامي والتجييش السياسي، إلى واقع يومي يحاول غسل أدمغة الجماهير، وتأبيد سلطان "الأخ الكبير". ورغم أن عبقرية الكاتب جورج أورويل، قد صورت أحداث تلك الرواية منذ عشرات السنين، إلا أنها بقيت تتمتع حتى اليوم، براهنية عجيبة عند مقاربتها بما يجري في العديد من بلدان العالم، مهما كانت نسبة التشابه أو الإختلاف بين حالات كثيرة..
بطل رواية 1984 "وينستون سميث"، هو عضو في الحزب الحاكم، وموظف في وزارة "الحقيقة"، التي هي الجهاز المسؤول عن الدعاية ومراجعة التاريخ من خلال تغيير الحقائق والمعطيات، بحيث تتفق على الدوام مع رغبات "الأخ الكبير" وما يعلنه الحزب الحاكم من مواقف، بناء على تعليمات تحدد التصحيحات المطلوبة، وتصفها بالتعديلات بدل التزييفات والأكاذيب، التي تتم غالبا باسم الدفاع عن الوطن والشعب والمصلحة العامة. ويكفي فقط لإدراك مدى زيفها أن نتأمل الشعارات التي يتبناها "الأخ الكبير" والحزب الاشتراكي الإنجليزي، والتي هي من نوع: "نحن نعلم أن لا أحد يستحوذ على السُّلطة مع نية التخلي عنها"؛ "السلطة ليست وسيلة بل غاية"؛ "المرء لا يؤسس دكتاتورية ليحمي الثورة، بل يقوم بثورة ليؤسس دكتاتورية"؛ "الأخ الكبير يراقبك أينما كنت"!...
لنقم فقط بإجراء مقارنة بسيطة.. من أجل مصلحة موريتانيا ومستقبلها لمعرفة
أين تقع الشعارات والأفكار والمبادرات، والتظاهرات، والمسيرات التي تروج عندنا منذ بعض الوقت والساعية لتحريك الشارع للمطالبة بمأمورية ثالثة.. مرورا بمحاولات تعديل الدستور بواسطة بعض نواب البرلمان.. وصولا لمحاولة تغيير تسمية شارع الزعيم جمال عبد الناصر..
وإذا استطعت أن تحدد بالضبط أين تقع هذه الديناميكية المتناغمة ضمن عقيدة وشعارات الحزب الاشتراكي الإنجليزي في رواية 1984 لجورج أورويل، فقد تستطيع الإجابة عن سؤال كبير: هل دخل شارع جمال عبد الناصر.. ومعه البلاد كلها.. في ضيافة "الأخ الكبير"؟؟؟
انواكشوط، 26 يناير 2019