مصير أمة أمام رمزية شخص!
غير الإيرانيون إسم بلدهم، وليس فقط إسم شارع في مدينة من مدنهم، من " فارس " إلى إيران سنة 1935 عندما رأوا أن ذلك هو ما يلائمهم، ولم يكن ذلك التغيير على إثر ثورة الخميني التي جاءت بعد ذلك بعقود حتى نقول إنه تغيير من تغييرات الثورات والثوار المولعين ب " التغيير " عادة.
وغير الكمبوديون إسم بلدهم، وليس فقط إسم شارع من شوارع مدنهم، من " كمبوتشيا " إلى كمبوديا سنة 1993عندما رأوا أن ذلك هو ما يناسبهم.
وغير السوازيلندون إسم بلدهم الواقع جنوب القارة الإفريقية، وليس فقط إسم شارع من شوارع مدنهم، من " سوازيلاند " إلى سواتيني بسبب التقارب بين إسمها الأول واسم سويسرا في النطق الإنجليزي.
وغيرت جمهورية التشيك إسمها، وليس فقط إسم شارع من شوارع مدنها، لتعرف حديثا باسم " تشيكيا " من أجل تسهيل نطق اسمها خدمة لمصلحة البلاد في الترويج لهويتها على الساحة الدولية، وأصبحت تعرف رسميا باسم تشيكيا منذ سنة 2016.
وغيرت جمهورية سريلانكا إسمها، وليس فقط إسم شارع من شوارعها، من " سيلان " إلى سريلانكا سنة 1972 انسجاما مع الحملة التاريخية المطالبة باستقلال البلاد.
وغيرت جمهورية بوركينافاسو إسمها، وليست فقط إسم شارع من شوارعها، من " فولتا العليا " الذي أطلقه عليها الفرنسيون نسبة إلى نهر " فولتا " الذي يمر عبر البلاد إلى بوركينافاسو، وذلك سنة 1984 في ظل حكم زعيمها الوطني توماس سانكارا.
وغيرت جمهورية نيجيريا عاصمتها، وليس فقط إسم شارع من شوارعها، من " لاغوس " إلى أبوجا وذلك سنة 1991 بسبب النمو الديموغرافي الكثيف في العاصمة أبوجا.
وغير البرازيليون عاصمتهم، وليس فقط اسم شارع من شوارعهم، من " ريو دي جينيرو " إلى برازيليا سنة 1961، وذلك عندما قدَّروا أن ذلك هو ما يناسبهم.
كما غيرت الكوت ديفوار عاصمتها، وليس فقط اسم شارع من شوراعها من " آبيدجان "، رغم القوة الاقتصادية لها ومكانتها في إفريقيا إلى ياموسوكرو وذلك سنة 1988.
وتغيرت عاصمة كازختسان، وليس فقط اسم شارع من شوارعها، بعد استقلالها عن روسيا من " الماتي " إلى أستانا سنة 1998.
وتغيرت عاصمة سلطنة عمان من مدينة صلاله إلى مسقط سنة 1970 وذلك لتفوقها من حيث الموقع الاستراتيجي عن مدينة صلالة من ناحية، ومن ناحية أخرى لتفادي الإضرار بالمميزات السياحية الكبيرة لمدينة صلالة بمناخها العليل ومعالمها الأثرية والتاريخية ومناظرها الطبيعية الخلابة.
وفي عهد الستينات والسبعينات من تاريخ بلدنا، تغيرت إداريا أسماء عدة مدن من مدننا من أسمائها التي كانت تُعرف بها شعبيا إلى أسماء أخرى، مثل ما حصل مع مدينة " لكوارب " على ضفة النهر التي أصبحت تعرف إداريا ب " روصو "، ومع مدينة " الصنكّه " التي أصبحت تعرف إداريا ب " المذرذره "، ومدينة " لبطاح " في الشمال الموريتاني التي أصبحت تعرف إداريا ب " أزويرات " التي تحولت بعد ذلك أيضا إلى عاصمة لولاية تيرس زمور بعد أن كانت مدينة " أفديرك " هي عاصمتها.
وخلال تسعينات القرن الماضي أطلق الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع إسم " الراظي " على بلدية " المنفكّع " التي كانت تُعرف بها، وفي عهده أيضا غُيرت أسماء الإدارة الإقليمية إلى تسميات مكتوبة فرنسيا منطوقة عربيا، فأصبح ( Le gouverneur ) يسمى ( Le wali ) وأصبحت ( La region ) تسمى ( La wilaya )، كما أصبح ( Le préfet ) يسمى ( Le hakem ) و ( l arrondissement ) تسمى ( La moukataa ). وفي نفس الفترة أيضا أعطيت سماء إدارية جديدة لبعض مقاطعات العاصمة التي كانت تسمى بالترقيم، كالمقاطعة الخامسة التي سُميت مقاطعة السبخة، والمقاطعة السادسة التي سُميت الميناء، والمقاطعة الأولى التي سُميت تيارت..
مرت كل هذه التغييرات بدون لغط ولا جدل أو جدال أو تعاليق أو تشكيك أو تفسيرات غرضية، وكانت كلها لأهداف معينة وليست عبثا، إذ لا أحد سيقدم على تغيير إلا لهدف مادي أو معنوي يصبح المُغيَّر معه أكثر تمشيا مع مصلحة أو مرحلة تاريخية أو اقتصادية من مراحل بلد، بخلاف ما شهدته العشرية الأخيرة من هذه التغييرات التي لم يُقرر أي منها إلا وأصبح، عند البعض، بمثابة هدم حركة طالبان لمعبد " بوذا " لدى البوذيين، أو هدم " انصار الشريعة " لأضرحة العلماء والصلحاء المدرجة على قائمة التراث العالمي في تيمبكتو..!
مؤخرا تم تقسيم منطقة نواكشوط إلى ثلاث ولايات بعد أن كانت منطقة واحدة يديرها وال واحد، وذلك تقريبا للإدارة من المواطنين وتسهيلا للإجراءات الإدارية من خلال لا مركزيتها، وتخفيفا للضغط على وسط العاصمة التي ظلت تديرها ولاية واحدة هي محج كل المراجعين في عاصمة مترامية الأطراف، فلم يسلم هذا الإجراء من التسفيه والتشكيك رغم مزاياه الواضحة.
كما انهمرت " دموع بصل " كثيرة على مدارس مهجورة في مركز عاصمة مكتظ ومزدحم، وعلى تغيير سوق مركزي سيء الواجهات والعمران آئل للسقوط على رؤوس تجاره ومتسوقيه، رغم أن ذلك كان بهدف عصرنة السوق وتأمينه، وعلى مبان قديمة ومتواضعة لا تحمل أية قيمة معمارية أو أثرية أو تاريخية، وإنما هي بنايات أقامتها الدولة على عجل عند تأسيس عاصمتها كسكن لبعض مواظفيها أو مقرات لبعض إدارتها، ولا يمكن تطوير مركز عاصمة وهذه المباني تتوسطها، ويكفينا النظر اليوم إلى منظر هذه المباني والخرب الجد المتواضعة بمحاذاة العمارات الحديثة التي تم تشييدها في ساحة " أبلوكات "!
ولم يكن ما رافق تغيير النشيد الوطني وتحسين العلم من لغط وتفسيرات غرضية،هي الأخرى، بأقل مما رافق ما سبقه من تغييرات كلها كانت في إطار التحولات التي يعرفها بلدنا، والتي لا مكان فيها للجمود أو التعصب أو التقديس إلا لما هو مقدس لدينا وكله محدد ومتفق عليه ومعروف، وما عداه أفكار واجتهادات ما يحكمها هو المصالح العليا للبلد وتنميته وتحديثه وليس " مقدسات " جهة أو جماعة أو إيديولوجيا دخيلة من أي اتجاه كانت.
اليوم يقرر بلد إعطاء الأسبقية في شؤونه لأولوياته وتاريخه وهويته وخصوصيته، ويتنزل في هذا الإطار تغيير اسم شارع من شوارعه لتجسيد وترسيخ ثابت من أسمى ثوابته ومتعلقات بقائه ونمائه هو وحدته الوطنية، حتى ولو حمل هذا الشارع اسم رمز آخر له مكانته التي لا ينقص منها أن آثرنا نحن أنفسنا وأعطينا الأولوية لثابت من ثوابتنا.
عندما أطلق المواطنون الموريتانيون إسم الرئيس عزيز على شارع آخر من شوارع العاصمة لا يقل أهمية عن الشارع المذكور، كونه مارا من أحياء عشوائية عتيدة كان له الفضل في تخطيطها وتمليكها لسكانها بعد طول انتظار، ومخففا للزحمة وفاكا للعزلة عن مناطق أخرى من العاصمة، جاءهم شاكرا وممتنا لهم على إطلاق إسم ذلك الشارع عليه دون أن يطلب ذلك منهم، منبها على أنه لا يهتم بتخليد اسمه في منشأة ولا شارع، وأن هناك ما هو أجدر بهذا الشارع الذي سيحمل إسم المقاومة كقيمة من قيم هذا البلد وشعبه، وصورة من صور ملاحم وحدته الوطنية التي تجسدت من قبل في مقاومته للمستعمر عسكريا وثقافيا، ويجب أن تظل شعلتها متقدة كما كانت ضد الاستعمار أو التهديد الخارجي، ولكن متقدة أيضا وبنفس الوهج ضد التهديد الداخلي المتمثل في مساع الساعين في تمزيق البلد والعبث بوحدته وانسجام مجتمعه.
وكما تم إعلانه، فإن إعطاء الأولوية لموريتانيا والموريتانيين في إبراز تاريخهم وتخليد أعلامهم لن يقتصر على تغيير إسم هذا الشارع فقط، بل سيشمل كل الشوارع التي تحمل أسماء لقادة آخرين، وإن كان ألئك القادة لا " بواكي إيديولوجيين " محليين لهم سيثورون ضد تغيير أسماء الشوارع الحاملة لأسمائهم.. إلا أنني ألفت الانتباه إلى أنه لا يكفي أن نطلق إسم رمز من رموزنا على أحد الشوارع ليصبح ذلك الشارع معروفا بذلك الإسم بين الناس، بل يتطلب ترسيخ ذلك جهدا إعلاميا وتحسيسيا وتعبويا كبيرا، كأن يتم تخصيص يوم تربوي لتجوب هذا الشارع تظاهرة كبيرة لكل طلاب وتلاميذ المدارس بالعاصمة، وأن تتم إقامة نصب تذكاري في بدايته أو على أحد جوانبه تجسد اسمه الجديد مُعرَّفا باسمه وبالخط البارز والعريض، إلى غير ذلك من الأنشطة والوسائل المساعدة والمبتكرة في ترسيخ هذا الإسم الجديد في الاذهان.
ونفس الشيء بالنسبة للشوارع الأخرى التي ستأخذ هي الأخرى أسماء جديدة لرموز وأعلام موريتانية، فمن المعروف أن هذه الشوارع بأسمائها القديمة، رغم أنها أخذت تلك الأسماء منذ عقود إلا أنها اليوم، ورغم التباكي على تغييرها ك " ذاكرة وطنية " ليست معروفة، ونادرا ما يستخدمها الموريتانيون في المجالات التي تستخدم فيها أسماء الشوارع عادة، فلا يستخدمها الركاب ولا أصحاب سيارات الأجرة مثلا، فتجد راكبا يبذل جهدا كبيرا في البحث عن معلمة يحدد بها وجهته لسيارة الأجرة، ودائما ماتكون تلك المعلمة بناية، أو بقالة، أو سوقا، أومحطة بنزين.. وليس شارعا لأن هذه الشوارع غير معروفة بأسمائها تلك..!
كما أنبه إلى ضرورة اختيار الرموز والأعلام التي سيتم إطلاقها على الشوارع دائما على أساس سهولة الاستخدام واختيار الأسماء القصيرة، إذ من المعروف أن أغلب أعلامنا وخاصة العلماء منهم يحملون أسماء مركبة طويلة مثل ( الشيخ فلان ولد الشيخ فلان الفلاني )، وهذا إسم طويل لن يصبر الناس على استخدامه وبالتالي لن يشيع أو يترسخ.. فإذا ما استخدمت هذه الأسماء فمن الأفضل اختصارها، بحيث إذا أردنا تسمية شارع بإسم الشيخ سيدي المختار الكنتي مثلا، فلنستخدم الكنية هكذا ( شارع الكنتي )، وإذا أردنا تسمية شارع آخر باسم الشيخ محمذن فال ولد متالي فلنستخدمه هكذا ( شارع ولد متالي )، أو الحاج الشيخ عمر تال نستخدمه هكذا ( شارع عمر تال )، ونفس الشيء بالنسبة لبقية الأعلام والرموز في المجالات الأخرى، ولن يخفى على الناس أن المقصود هو هؤلاء الأعلام..
وأخيرا، هل سمعتم نجم كرة القدم المصري محمد أبو اتريكه البارحة في الحفل السنوي للاتحادية الوطنية لكرة القدم وهو يقدم الشكر للاتحادية، ويتمنى مزيد التألق والنجاح لفريق كرة القدم الموريتاني وحظوظا كبيرة له في كأس إفريقيا للأمم المنظم في مصر هذا العام، مستدركا " بعيدا عن البطل طبعا فهو معروف وسيكون منتخب مصر ".. فهل رأيتم إذن كيف يعطي الكل الأولوية لبلاده في كل المجالات وفي كل الظروف وقبل أي بلد آخر!
شوارع العاصمة كثيرة وطويلة وقديمة، لكن لا واحدا منها يصلح أو يستحق إسم شارع الوحدة الوطنية أكثر من هذا الشارع الذي سعى وهرول إليه كل الموريتانيين ذات صباح باكر قارس استجابة لنداء وحدتهم / مصيرهم، فتوحدت فيه شعاراتهم، وانصهرت فيه مشاعرهم الوطنية الواحدة يوم التاسع من هذا الشهر!
لا تبخل بأغلى ما لديك في سبيل أهم ما عندك..