لا يسعى هذا المقال إلى نقاش مرشح الأغلبية الأنسب، ولا مرشح إجماع المعارضة الأكثر ملاءمة.. إنه يهدف إلى نقاش أشمل وأعم.. إنه يحاول أن يُخرج لنا –عبر مجموعة من الملاحظات والتساؤلات- الشخص الأكثر قدرة على قيادة البلد في المرحلة القادمة..!
يقال إن الأمريكيين حين أرادوا وضع دستورهم (1788) كان السؤال الأبرز: كيف ينبغي أن نُحكم؛ لتطال النقاشات والأجوبة كل المجالات وكل الفضاءات.. وفي الختام كانت النتيجة بناء العملاق الأعظم في تاريخ الكون (الولايات المتحدة الأمريكية)..!
"السياقات الإنسانية" لا تختلف كثيرا عن "السياقات التجريبية"؛ إذ هي قابلة دوما للتمثل والإسقاط؛ وإن تباينت درجات ذلك.. صحيح أن السؤال التاريخي الذي طالما انطلقنا (نحن) منه عند الحالات المشابهة للحالة الأمريكية الآنفة (حالة التحول) كان هو: من ينبغي أن يحكمنا..؟ وليس كيف ينبغي أن نُحكم ؟
وإذا كان الوقت باكرا على التأسي بالولايات المتحدة وخيارها الإعجازي؛ فإنه كذلك (أي الوقت) متأخر جدا على إعادة أخطاء عشرات السنين؛ إن لم تكن مئينها.. لذلك علينا اليوم –بمنتهى الموضوعية والواقعية- أن نتمثل على رأي الأصوليين ذلك المبدأ القائل "ما لا يدرك كله لا يترك جله" بل وعلى رأي الاجتماعيين أيضا "ما تيبس التاديت ؤلا ايموت لعجل"..!
صحيح أنه علينا أن لا يدفعنا التفاؤل –في هذه الظرفية على الأقل- إلى الاقتناع بقدرتنا على مجاراة أبناء العم "سام" تماما مثلما أنه علينا أن لا ننجر وراء التشاؤم المفضي إلى إعادة تجارب "اللاشيء".. علينا أن نمشي بين "الحفا واللين" على رأي الروائي الفلسطيني إميل حبيبي أول "المتشائلين"..!
الحقيقة أننا نقف على شفا محطة عظمى وحاسمة في تاريخنا؛ لما تعنيه من تحولات سياسية واقتصادية كبرى.. ففي الوقت الذي يتراءى لنا أول تبادل دستوري للسلطة في تاريخنا (لأنه سيكون بين رئيسين منتخبين) تلوح في أفقنا ثروة طبيعية هائلة.. ينضاف إلى ذلك ما أنتجته عشرية الانفراج الأخيرة –ونتيجة تشوه وعينا بالحرية، وسوء استغلالنا لوسائل الاتصال الحديثة والفعالة- من احتقان سياسي ومجتمعي وفكري..
نتيجة كل ذلك نعيش تحديا هائلا؛ يستلزم رفعه نقاش الإشكالية السابقة التي كانت مدخلنا إلى الموضوع.. لن نطرح مع الأمريكيين سؤال: كيف ينبغي أن نُحكم؟ لكننا –بالمقابل- لن نسأل مع "أنفسنا" من سيحكمنا؟
السؤال الأنسب -في رأينا- والأعم؛لأنه يمثل مزيجا من السؤالين: ما الذي تحتاجه مرحلتنا القادمة؟
تستلزم الإجابة على سؤال من هذا القبيل استحضار العديد من الاعتبارات؛ لأن الأمر يتعلق باحتياجات الدولة، وما يعنيه ذلك من احتضان لكل الفضاءات والسياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية..
نعيش اليوم استقطابا حادا بين الأغلبية الحاكمة، والأقلية المعارضة؛ والذي تتم ترجمته للكثير من المظاهر ليس أسوأها رفض الجلوس على طاولة واحدة، أو تبادل السباب والشتم والتخوين الدائم.. بل وتهتز الثقة داخل القطب السياسي الواحد (أغلبية كان أو أقلية) كما هو الحال في تعدد الأسماء المطروحة للترشيح للرئاسيات من طرف الأغلبية (بعد أن قطع الرئيس الشك باليقين بشأن ترشحه) بل واحتدام الاختلاف حول تلك الأسماء؛ حتى نحا منحى جهويا مكشوفا؛ قد يمثل مستقبلا ورقة رابحة للمعارضة.. والشيء ذاته تقريبا ينطبق على المعارضة؛ حيث تنعدم الثقة –نهائيا- بين "المعارضة المحاورة" و"المعارضة المقاطعة".. وتتقلص بدرجة حادة بين "المنتدى" و"التكتل" وبدرجة أقل حدة بين مكونات المنتدى..
ما يعيشه المجتمع من اهتزاز عنيف؛ قلب الكثير من القيم والمفاهيم التي كانت عاملا إيجابيا في عنصر الاستقرار، أو محايدا على الأقل.. مثل انشطار القبيلة، وما عناه ذلك من صعود للشرائحية من جهة والعرقية من جهة أخرى.. تصدع البناء الفوقي للمجتمع؛ وما يهيئ له ذلك عادة من تحولات نفسية وأخلاقية؛ وحتى سلوكية..
الطفرة الاقتصادية التي تخيم على أفقنا، وما يشي به ذلك من أطماع دولية وإقليمية.. بل ومافيوية أحيانا، وما يحمله تسييرها وترشيدها من هواجس لدى الأغلبية العظمى من الساكنة.. المخاطر الأمنية؛ التي يغذيها العديد من الروافد الداخلية والخارجية؛ حيث تغلغل التطرف محليا وإقليميا، وحيث يرجح العديد من المحللين أن "شبه الحزام الرخو" المحيط بنا؛ قد يكون المتنفس المناسب للقاعدة وداعش بعد هزيمتهما في المشرق..!
الثقة المهترئة بين النخبتين (السياسية والعسكرية) حيث ترى الأولى أن الثانية هي العقبة الكأداء في وجه مشروع الدولة المدنية (دولة العدل والمساواة) وتذهب بعيدا في الاستدلال؛ لتتهم المؤسسة العسكرية (أو بعض قياداتها على الأصح) بجرائم قتل وتهجير على الهوية.. فيما ترى المؤسسة العسكرية أن النخبة السياسية ليست إلا كتلة من الانتهازيين يتاجرون بأمن البلد واستقراره؛ عبر إثارة النعرات والحساسيات العرقية والشرائحية.. وترى النخبة العسكرية أن الجيش هو المؤسسة الصلبة الوحيدة في البلد، وأنه –وتماسكه وقوته- الضامن الأوحد للاستقرار والنماء.. تدور أسماء سياسيين (على الخصوص) يعتبرهم الجيش خصوما؛ إن لم يكونوا أعداء.. وفي ذات السياق ترد أسماء لعسكريين متهمين (من طرف السياسيين) بالقتل والتهجير..!
تحت وقع هذا الكم الهائل من التحديات نحتاج شخصا بمواصفات يمكن إجمالها في النقاط التالية:
- أن يكون قادما من خارج التخندق السياسي (سواء في إطار الأغلبية أو الأقلية) حتى يتسنى له نيل ثقة أكبر قدر ممكن من الخارطة السياسية؛
- أن يكون مدركا لعمق الثقافة المجتمعية؛ كي يستوعب التحول الذي تشهده المؤسسة المجتمعية؛ ومن ثم يواكبه ويسيّره؛
- أن يكون مدركا بعمق للملف الأمني؛ ببعديه الداخلي والخارجي؛ لما يوفره له ذلك من هيبة في عيون المتربصين أولا، ولما يمده به من ثقة الشركاء الدوليين ثانيا؛
- أن يكون تاريخه التسييري نقيا بأكبر قدر ممكن؛ بحيث لم تشع عنه صفقات فساد، ولا تعرف له استثمارات؛ حتى يبعث على الارتياح والأمل بخصوص الثروة القادمة؛
- أن يكون قادرا على الجمع بين ثقة السياسيين والعسكريين؛ بأن لا يكون من الأسماء السياسية المتحسسة من الجيش، ولا من الأسماء العسكرية المتهمة لدى السياسيين؛
يُطرح الوفير من الأسماء اليوم (أغلبية ومعارضة، ومدنية وعسكرية.. وبين هذا وذاك) لرفع هذا التحدي، يحملون –بالتأكيد- بعض هذه الصفات؛ وإن تباينت نسبة حملهم لها.. لكن المستعرض لتلك الأسماء -بالموضوعية والتفصيل- يدرك دون كبير عناء أنه من أكثرها احتضانا لتلك الصفات وانسجاما معها معالي الوزير محمد ولد الغزواني.