تعني الديمقراطية بمعناها العام وضع السلطة السياسية بيد الشعب وضمان حقوق المواطنين وحرياتهم التي يكفلها الدستور، فهي ذلك الشكل من الممارسة السياسية الذي يُتيح لأفراد الشعب ومن دون أي تمييز حق المشاركة في وضع السياسة العامة للدولة، وحق المشاركة في اتخاذ القرارات وصناعتها بشكل يكفل تنظيم الجماهير الشعبية وتعبئة طاقاتها. وبالنسبة للديمقراطية الموريتانية فقد مرت بمراحل هامة وفقا لمسار المشاركة السياسية الموريتانية منذ الاستقلال وحتى اليوم، فقد انطلقت المسيرة السياسية للقوى الوطنية في أواسط الخمسينيات باتجاه هدف الاستقلال وأصبحت النخبة الوطنية تشارك بحماس وتحث الخطى نحو تحقيق هذا الهدف الذي يمثل هماً مشتركا فيما بينها. وبعد أن تمكنت النخبة الوطنية والقوى السياسية الحية من تأسيس الكيان الموريتاني في أول جمهورية عرفت البلاد تجارب حكم مختلفة عبر فترات سياسية هامة اختلفت ظروفها وسياقاتها وتعددت آليات انتقال السلطة فيها بين الأحكام العسكرية والمدنية وكان من أهم هذه النماذج تجربة الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع الذي وصل إلى سدة الحكم في 12 كانون الأول/ ديسمبر1984 مُبشراً بعهد جديد من الممارسة السياسية العصرية والإصلاحات الدستورية.
ويمكن اعتبار تجربة الانتخابات المحلية هي الخطوة الأولى في مجال الإصلاح السياسي الذي قام به الرئيس ولد الطايع، والذي حاول من خلاله تدشين الانفتاح على المجتمع السياسي الوطني، واستخدامه كأساس بوصفه أول لبنة لإقامة نظام ديمقراطي على شاكلة الأنظمة الديمقراطية التي تأسست بعد خطاب الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران بقمة لابول 1990، والذي طالب فيه حكومات إفريقيا الفرانكفونية باستخدام إصلاحات سياسية وانفتاح على المعارضة وعصرنة مؤسسات وهياكل دولهم.
وكان الرئيس ولد الطايع من بين الرؤساء الأفارقة الذين لبَوا النداء[1]، فقد أعلن مطلع 1991 عن نيته في دمقرطة الحياة السياسية، وجسد ذلك على الصعيد العملي من خلال استفتاء شعبي على دستور يُقر التعددية الحزبية ويمنح العديد من الحقوق والحريات العامة ويُتيح فرضا واسعة أمام المواطنين للمشاركة في تدبير الشؤون العامة، ويتعلق الأمر بدستور 20 يوليو 1991، الذي كان بمثابة إعلان ميلاد الجمهورية الموريتانية الثالثة[2]. وقد تفاعل الموريتانيون مع الحريات التي استحدثها دستور 1991 عندما ظهرت أحزاب عديدة وتأسست صحف كثيرة وظهرت نقابات، وتعاطى المجتمع ظاهرة المجتمع المدني عبر تأسيس الجمعيات التي اتخذت لها أغراضا شتى. وعرفت تلك التجربة الانتقال من الحكم العسكري إلى السلطة المدنية كشكل من التناوب الديمقراطي.
هذا ويُعد التناوب ظاهرة ديمقراطية صحية تتطلب وجود أحزاب سياسية تتنافس للوصول إلى السلطة من خلال الحصول على أصوات الناخبين وكسب ثقتهم وفق برنامج سياسي يأخذ بعين الاعتبار تحقيق المطالب الاقتصادية والاجتماعية وكذا السياسية للمواطنين. وبمعنى آخر يعني التناوب تلك الآلية السياسية الديمقراطية التي تسمح للأحزاب السياسية بالتناوب على السلطة حسب تغيير موازين القوى، فهو يؤدي بذلك إلى الاستقرار السياسي للأنظمة، ويُبعد عن الفتن والفوضى والانقلابات والثورات لأنه يسمح بانتقال السلطة سلميا من أغلبية حاكمة إلى معارضة... إلخ. وذلك عن طريق صناديق الاقتراع، فهذا التحول السياسي من أغلبية إلى معارضة هو ما يُسمى: التناوب.
وعن طريقه لا يمكن أن توجد أغلبية دائمة ولا معارضة دائمة. وعلى هذا النحو فقد مرت دول عديدة بمراحل هامة من التناوب، فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن الإشارة إلى بعض نماذج هذا التناوب في بعض دول العالم حيث تمت استقالة ديكول من السلطة بعد فشله في استفتاء 1968، وهزيمة تشرشل في الانتخابات البريطانية بعد النجاحات التي حققها لبريطانيا في الحرب العالمية الثانية. وكما حصل في السودان عندما سلم عبد الرحمن سوار الذهب السلطة للشعب بعد استيلائه عليها في بداية الثمانينات. وأيضاً ما حدث في موريتانيا حيث قدم الرئيس الراحل العقيد اعل ولد محمد فال استقالته من السلطة بعد وصوله إليها على إثر انقلاب 3 أغسطس 2006 لتعرف البلاد تجربة تناوب ديمقراطي جديد في ظل حكم رئيس مدني منتخب، ولتنتظم المؤسسات الديمقراطية الجديدة المُنبثقة من انتخابات 11 و 25 مارس 2007 التي جاءت بالرئيس: سيدي ولد الشيخ عبدالله إلى السلطة. ومثل ذلك ما حصل قريبا في مالي والسنيغال حيث تم التناوب على السلطة بكل هدوء.
عادة ما يكون خيار التناوب السلمي من أسلم الحلول وأنجعها لاستمرار الحكم الديمقراطي، لكنه أيضا قد يكون من الخيارات الصعبة لدى الأنظمة العسكرية خاصة منها حديثة العهد بالسلطة أو تلك التي مرت بصراع طويل مع مبدأ الشرعية، وقد يستلزم التعاطي مع هذا المبدأ وفق خيار التداول السلمي حلولا عدة وآليات مختلفة من قبيل دبلوماسية البحث عن مخرج .. والانتقال المُؤمن أو الخروج الآمن.
وكل تلك الحلول وغيرها تستوجب وضع آليات وأسس وقواعد دستورية تكفل الممارسة الديمقراطية الحقيقية حتى وإن تطلب الأمر إبعاد المؤسسة العسكرية عن السياسة والسلطة، هذا إن كان يُراد من التداول السلمي التأسيس للحكم الديمقراطي وليس الترسيخ للمتاهات السياسية التي قد تعود بالأوضاع إلى مربع قديم ولا تخرج السلطة من دائرة العسكرة وسياسة البناء على الأنقاض
ويبقى استقرار أي نظام سياسي كان رهين بقدرته على صياغة آلية دستورية تضمن الانتقال السلمي للسلطة في حالة خلو المنصب المحوري في النظام وتسمح بالمشاركة السياسية بين الاتجاهات المختلفة على حد سواء وفق أسس ومبادئ النظم السياسية، وخاصة في ظل التعددية الحزبية التي تجعل من أهم غاياتها الوصول إلى السلطة حسب تعبير موريس ديفرجيه ذلك أن التداول السلمي للسلطة يرتبط بوجود تعدد حزبي حقيقي يسمح بتنافس فعلي بين عدد من الأحزاب ذات التوجهات المتباينة كي تنتقل السلطة من حزب إلى آخر أو من زعيم أحد الأحزاب إلى زعيم حزب آخر، الأمر الذي يعني أن التداول السلمي للسلطة قد لا يستقيم في ظل وجود حزب وحيد وإن كان من الممكن حدوث نوع من التداول بين زعماء الحزب أو زعماء الاتجاهات المختلفة داخله. وقد يعني التداول السلمي في مفهومه العام الانتقال من الحكم العسكري إلى الحكم المدني كما في بعض التجارب الديمقراطية الناجحة، أو بالتحول من أنظمة دكتاتورية إلى أخرى ديمقراطية. ولا يعني بالضرورة انتقال الحكم من سلطة عسكرية إلى أخرى شبيهة بها.
وإن تعددت المبررات رغم كون بعضها يلبس ثوباً مدنيا يبقى ذلك الانتقال هو مجرد استمرار لمسلسل عسكرة السلطة، ومن ثم يتضح أن التداول السلمي للسلطة يكاد يجمع سمات النظام الديمقراطي وشبه الديمقراطي، حيث يستلزم حدوثه وجود تعدد حزبي وتنافس سياسي حقيقي وانتخابات دورية حرة ونزيهة ورأي عام قوي وقادر على التأثير ووسائل إعلام نشطة تقوم بدور رقابي فاعل وهيئات رقابة أخرى تقوم بمحاسبة القائمين على السلطة.
وبالتأسيس على ما سبق ينبغي التسليم أنه لتحقيق التحول الديمقراطي في بلد من البلدان يجب توفر جملة من الشروط الموضوعية والإجرائية، والتي بدونها أو في حالة وجود ما يعيقها يتعثر هذا الانتقال كليا أو جزئيا، وهذه الشروط من أهمها: توافر حدا أدنى من الثقافة السياسية ووجود إجماع نخبوي حاسم وغير متردد حول الخيار الديمقراطي، وتوفر حد مقبول من الرخاء الاقتصادي للمواطنين يحفظ المسار الديمقراطي من الانحراف، وكذا التأثر بالمحيط الخارجي الداعم لمساعي التحول إلى الحكم الديمقراطي.
وإذا اقتصر تداول السلطة على إعادة أدوار سابقة لنظام حزب واحد أو أنظمة دكتاتورية أو إنتاج لعسكرة سلطة جديدة دون الأخذ بعين الاعتبار المبادئ الأساسية للتناوب الديمقراطي وفق الأسس الدستورية العامة، فإن هذا التناوب لا يعدو أن يكون سياسية ودبلوماسية للبحث عن مخرج آمن لنظام حكم مُنبثق عن ظرفية انقلاب عسكري، ولاحقته أزمات سياسية خانقة وتداعيات انقلابات عسكرية سابقة كادت تدخل البلاد منعرجات صعبة.
وأبسط مثال على ذلك بقاء الوضعية السياسية الموريتانية سنة 2011 مطبوعة نوعاً ما بمخلفات انقلاب 6 أغسطس 2008 الذي وضع حدا للتجربة الديمقراطية القصيرة 2007، حيث إن انقلاب 2008 يجد جذوره ومصدره المباشر في الصراع ما بين الرئيس ولد الشيخ عبدالله وجنرالات الجيش. وقد استقبل بمعارضة داخلية شديدة بقيادة الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية (FNDD) برئاسة رئيس الجمعية الوطنية، مسعود ولد بلخير، ومن "المجتمع الدولي" المنتظم في "مجموعة الاتصال الدولية حول موريتانيا"[3]. وقد دعت المعارضة والمجموعة الدولية إلى العودة إلى النظام الدستوري وبصورة فورية في موريتانيا[4].
ولعل التأسيس السابق يُفهم منه ضرورة التناوب الديمقراطي – الإيجابي– في تدعيم الاستقرار السياسي وهو ما يعني أيضا الالتزام بالمبادئ الديمقراطية وعدم استنساخ تجارب أحكام عسكرية سابقة، أو إعادة الأدوار بالتأسيس على سياسة الأنقاض التي غالبا ما قوضت أركان دُول وألقت بتأثيراتها على عديد الأنظمة السياسية، وإن كان البعض يرى في تلك السياسية دبلوماسية للبحث عن مخرج آمن أزمات مُحدقة أو أخرى محتملة.
--------------------------------
[1] أنظر مؤلف: الدكتور محمد الأمين ولد سيدي باب، مظاهر المشاركة السياسية في موريتانيا، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، أيلول/ سبتمبر 2005. ص: 419.
[2] - محمد ولد سيديا ولد خباز ، وآخرون ، " المؤسسات السياسية والحريات العمومية في موريتانيا" (د. م) روائع مجدلاوي، 2003. ص: 11 وما بعدها.
[3] - تتكون مجموعة الاتصال الدولية هذه من: الاتحاد الإفريقي، الاتحاد الأروبي، منظم الأمم المتحدة، المنظمة الدولية للفرانكفونية، جامعة الدول العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي.
[4] - الدكتور: أحمد سالم ولد ببوط. المراجعة الدستورية بموريتانيا بتاريخ: 20 مارس 2012. المجلة الموريتانية للعلوم السياسية، العدد: الثاني: 2014، ص: 9.