رأينا في الحلقة الثانية عدم شرعية الاسترقاق ابتداء في منطقة الغرب والشمال الإفريقي، من خلال شهادات التنبكتي والجارمي وغيرهما. ونعضد هذا الأمر الآن بشهادة أحد العلماء الموريتانيين الذين لم يجاملوا مجتمعهم في الحق، وهو محمد بن محمد بن علي اللمتوني، أحد علماء القرن العاشر الهجري بمدينة ولاتة.
ولشهادة هذا العالم قيمة تاريخية عظيمة تتجاوز حدود بلادنا. فقد كتب اللمتوني رسالة استفتاء طويلة إلى العلامة جلال الدين السيوطي في مصر عام 898 هــ، يسأله فيها الإجابة عن العديد من الإشكالات الشائعة في مجتمع بلاد التكرور (موريتانيا وما حولها). وقد ضمَّن السيوطي هذه الوثيقة في كتابه (الحاوي للفتاوي) وامتدح كاتبها، واصفا إياه بأنه "الشيخ العالم الصالح" (الحاوي 1/344)، ورد على أسئلته في رسالة وجيزة سماها (فتح المطلب المبرور وبرَد الكبد المحرور في الجواب عن الأسئلة الواردة من التكرور). وما يهمنا هو ما ورد في وثيقة اللمتوني من وصف الأوضاع الدينية والاجتماعية في هذه المنطقة. وأهم ذلك دلالة لموضوعنا أمور ثلاثة:
أولها: تأكيد اللمتوني على ما أكد عليه التنبكتي فيما بعد من شيوع استعباد الأحرار في هذه البلاد، حيث يقول: "ومنهم من يخاصم على الأحرار، ويدْعوهم بالعبيد، فإن مات من ادعى عليه ذلك لم يقسموا بين ورثته، ثم يدْعوهم من بقي باسم الرق، وإن قلتَ لهم: (هؤلاء أحرار) كادوا يقتلونك، ويقولون: هؤلاء عبيد أتباع للسيف، ومنهم من يجعلهم كالخدم بالضرب والعذاب، ومنهم من يسخر منهم ويأخذ منهم الأموال ولا يضرهم في أنفسهم، ومنهم من يبيعهم بالتنافس والتنازع" (السيوطي: الحاوي للفتاوي 1/337).
ثانيها: ملاحظته للازدواجية الأخلاقية السائدة في الثقافة الدينية لأهل هذه البلاد، وإدمانهم على الظلم الاجتماعي، مع تدينهم وحبهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. يقول اللمتوني: "ومنهم من عادَتُه محبة العلماء، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأعمال الصالحة، والصدقة، وإطعام الطعام، وقِرى الضيف، وغير ذلك من وجوه الخير. ولا يتركون ما هم عليه من تكبر، واسترقاق الأحرار، والمقاتلة، والظلم، وأكل الحرام" (السيوطي: الحاوي 1/339).
ثالثها: أخذ اللمتوني على فقهاء هذه البلاد الابتعاد عن الوحي، والانشغال عنه بكتب الفروع بكل مساوئها. حيث يقول: ""ومن فقهائهم من عادته ترك القرآن والسنة، وأخذ (الرسالة) و(المدونة الصغرى) و(ابن الجلاب) و(الطليطلي) و(ابن الحاجب)، حتى عادوْا من يفسر القرآن، ويقولون: قال أبو بكر الصدِّيق: إن كذبتُ على ربي أيُّ أرض تحملني؟ وإذا سمعوا آية تتلَى لتفسير نفروا عنها نفرة الحمُر الوحشية" (السيوطي: الحاوي 1/340).
وكأنما لاحظ اللمتوني العلاقة وثيقة بين هذه الأخطاء الفادحة في انتهاك كرامة الإنسان، وبين الانشغال عن نصوص الوحي بمتون وحواش موغلة في التكيف مع الواقع الاجتماعي، حتى غدت غواشيَ تحول بين الناس وبين القيام بالقسط، ذلك المبدأ النبيل الذي بعث الله كل الرسل وأنزل كل الرسالات من أجل تحقيقه: "لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" (سورة الحديد، الآية 25). وقد أحسن المفكر الجزائري مالك بن نبي إذ اعتبر "تجريد الآيات القرآنية من الغواشي الفقهية واللغوية والتاريخية" شرطا من شروط النهضة في العالم الإسلامي، لأن هذه الغواشي أثمرت مفارقات صارخة بعيدة كل البعد عن المعاني الإنسانية المثلى التي جاء بها القرآن، وعن مقصد كل الرسالات السماوية في القيام بالقسط.
وفي الجدول الآتي تلخيص لبعض المفارقات بين النص القرآني والرأي الفقهي. وهي كلها تشير إلى تأويل النصوص القرآنية الصريحة ذات الصلة بالرق، وصرفها عن ظاهرها، كلما تعلق الأمر بالمساواة بين العبيد والأحرار. ولو استقرأنا أكثر لأوردنا أمثلة أكثر:
الرقم
مضمون النص القرآني
خلاصة الرأي الفقهي
01
أمر صريح بقبول المكاتبة عند ابتغاء السيد لها
الأمر هنا للندب أو الإباحة، وهو غير ملزم للسيد
02
أمر صريح بإيتاء الإماء مهورهن شأنهن شأن الحرائر
صداق الأمة ملك للسيد، لا للأمة
03
أمر صريح بمساعدة العبيد والإماء في الزواج
الأمر هنا للندب أو الإباحة، ويجوز للسيد منع العبد من الزواج
04
أمر صريح بدفع الدية في قتل أي نفس مؤمنة
العبد لا دية له، وإنما له قيمة فقط
05
أمر صريح بالقصاص في القتل العمد
لا قصاص من حر لعبد إذا قتله عمدا
06
الطلاق ثلاث مرات دون تمييز حر من عبد
طلاق العبد طلقتان فقط
07
العدة ثلاث حيض دون تمييز بين حرة وأمة
عدة الأمة حيضتان فقط
ولم تخل كتب الفقه والحديث من رافض لهذا الجانب أو ذلك من فقه التمييز، ومحتكم إلى نص الوحي من غير غواش، حتى وإن ضاعت أصوات هؤلاء بين أصوات الجمهور. فقد استنكر –مثلا- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق الخروج على القرآن في موضوع العدة: "روى الدارقطني من طريق زيد بن أسلم قال: سئل القاسم بن محمد عن عدة الأمة، فقال: الناس يقولون حيضتان، وإنا لا نعلم ذلك في كتاب ولا سنة. انتهى وإسناده صحيح" (ابن حجر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/70).
وأصل هذا التمييز في كل شيء هو القياس غير الموفق على حكم قرآني جاء تخفيفا على الأمة حينما جعل الله عز وجل عقوبتها على الزنا نصف عقوبة الحرة: "فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ" (سورة النساء، الىية 25) رفقا بها نظرا لما تنمِّيه العبودية من ضعف الحصانة الاجتماعية وضعف الإحساس بالكرامة الإنسانية، ونظرا لظروف الإكراه على الزنا الذي كان شائعا طلبا للمال، وهو أمر استبشعه القرآن الكريم ونهى عنه: "وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" (سورة النور، الآية 33). وما كان من اللازم الخروج على ظواهر الآي المحكمات، والتعدي على حقوق الأرقاء، قياسا على هذه الجزئية التي جاءت لمصلحة الرقيق قبل أي شيء آخر.
لقد لاحظ الباحث المغربي الدكتور عبد الإله بنمليح في دراسته لتاريخ الرق في المغرب والأندلس التعارض عند فقهائنا بين "صورة الرقيق الشيء وصورة الرقيق الإنسان" (بنمليح: الرق في بلاد المغرب والاندلس، ص 264). كما لاحظ غلبة الصورة الأولى على الثانية في كتب الفقه، حيث ساد "تشييء الرق" (ص 265) أي تحويله إلى "شيء"، بدلا من التعامل معه كبشر من لحم ودم ومشاعر. وهو ما انعكس على فهم الفقهاء للنص الشرعي، فأنتجوا "الفقه التمييزي" (ص273) الذي ورثناه عنهم. وأخيرا لاحظ بنمليح نزوع الفقه المغربي–الأندلسي (المالكي) إلى منحى القول بالملكية المطلقة للعبد، لا الملكية النسبية التي تحفظ عليه شيئا من إنسانيته.
وما لاحظه الباحث المغربي صحيح تماما. فقد تراوحت مكانة الرقيق في كتب الفقه المالكي بين مستويين:
أولهما: اعتباره شيئا متملكا، لا تمييز له عن الحيوان والأشياء. وقد ترددت تعبيرات الفقهاء المالكية الموحية بهذا المعنى، من مثل قول ابن رشد: "العبد مال من الأموال" (ابن رشد: البيان والتحصيل 15/502)، وقوله: "وأما العبد فلا دية له على مذهب مالك -رحمه الله- وإنما هو كسلعة من السلع، فعلى قاتله خطأ كان أو عمدا قيمته، بالغة ما بلغت في ماله، ولا تحمل العاقلة من ذلك شيئا" (ابن رشد: المقدمات، 3/296). ومنه قول اللخمي الذي نقله عنه ابن رحال: "الحيوان على اختلاف الأجناس من عبد وفرس وشاة..." (ابن رحال: كشف القناع في تضمين الصناع، ص 121).
وثانيهما: اعتباره نصف إنسان، أو "حيوانا عاقلا" يستحق معاملة أفضل من معاملة الأشياء والحيوانات، لكنه ناقص الإنسانية، وليس له من أمره شيء. وقد جاء خلاف الفقهاء في جراحات العبيد كاشفة عن هذه النظرة. قال ابن رشد: "وأما جراح العبد فقد اختلف فيها على ثلاثة أقوال: أحدها أن على جارحه ما نقصه من غير تفصيل، قياسا على العروض والحيوان. والثاني: أن جراحاته في قيمته كجراحات الحر في ديته قياسا على الحر. وقال الشافعي: قياس العبد على الحر أولى من قياسه على الحيوان والسلع، لأنه حيوان عاقل مكلف، ليس كالحيوان والسلع." (ابن رشد: المقدمات، 3/297).
وفي الصراع بين مفهوم الملكية المطلقة التي لا تدع للعبد هامش تصرف في نفسه وماله، والملكية النسبية التي تترك له هامش تصرف ينفق منه على نفسه وأسرته ويفتدي نفسه مكاتبةً، نحا الفقه المالكي منحى الملكية المطلقة. وقد تحدث القرطبي عن رأي المالكية في هذا باعتزاز، فقال: "ولعلمائنا النكتة العظمى في أن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد" (تفسير القرطبي 2/241). وهكذا جرد فقهاؤنا العبد من حق تملك المال، رغم أن أكثرهم ألزموه بالإنفاق على زوجته وإكسائها في الليل على الأقل (ميز بعض الفقهاء بين النفقة والكسوة في اليل والنهار، فهما على الزوج المملوك في الليل، وعلى السيد المالك في النهار)!!.
وقد تفنن الفقهاء في الحديث عن عيوب العبيد والإماء الخلقية والخلُقية مراعاة لمصلحة السيد، حتى أوصل الونشريسي هذه العيوب إلى أكثر من ستين عيبا، كما تفننوا في الحديث عن عيوب الجواري وأوصافهن الجسدية التي قد تؤثر على قيمتهن في نظر المالك، فمنهن الفقْماء والفوْهاء والقنْواء والشمَّاء والفطْساء..الخ لكن هذا الاهتمام لم يصحبه ما يناسبه من اهتمام بالمعاناة الإنسانية التي يعيشها العبد والأمة، وما يواجهه كلاهما من إهدار لإنسانيته وكرامته تحت غطاء فقهي شفاف انبتَّ عن مصادر الوحي ومعانيه الإنسانية، وأهدر نصوص القرآن الكريم أمام الأعراف الاجتماعية.
وتحت وطأة هذه الثقافة الفقهية المتحيزة للسادة منع الفقهاء العبد من الحج –خامس أركان الإسلام- إلا بإذن السيد، رغم عموم النص القرآني: "وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" (سورة آل عمران، الآية، 97). وليت ما فعله الفقهاء هنا كان إعفاء لا منعا، فيكون رخصة لصالح العبد، تراعي حاله البائسة، وتعترف بالقيود المفروضة عليه. لكن الأمر لم يكن كذلك، وإنما جاء قولهم مراعاة لحق السيد في الخدمة. وقد صرح بذلك القرطبي فقال: "قال أصحابنا [المالكية]: لا تجب عليه [أي على العبد] عبادة الأموال من زكاة وكفارات، ولا من عبادات الأبدان ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك" (تفسير القرطبي 10/147) وهو ما يعني عمليا ترجيح العبودية على العبادة!! وكأن خدمة السيد خمسة أيام أهم من أداء حجة الإسلام المفروضة، أو خدمته ساعتين أهم من عمرة مبرورة.
وهكذا منع الفقهاء العبد القادر على الحج من الحج بغير إذن السيد. فإذا تجرأ العبد وقدم حق الخالق على حق المخلوق ثم "أحرم [بالحج] بغير إذن سيده، فالسيد بالخيار في فسخ إحرامه أو تركه" (ابن عبد البر: الكافي 1/412). بل عدَّ بعض المالكية الإحرام عيبا من عيوب البيع في العبد والأمة، ففي المدونة: "قلت [القائل سحنون]: أرأيت إن باع عبده أو أمته وهما مُحْرمان، أيجوز بيعهما أم لا؟ قال [القائل ابن القاسم]: نعم في قول مالك يجوز بيعه إياهما، وليس للذي اشتراهما أن يُحلَّهما، ويكونان على إحرامهما. قلت: فإن لم يعلم بإحرامهما أتراه عيبا يردهما به إن أحب؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئا، وأراه عيبا يردهما به إن لم يكن أعلمه بإحرامهما، إلا أن يكون ذلك قريبا" (المدونة، 1/490).
وإمعانا في التحيز –الشعوري واللاشعوري- للسيد المسيطر على حساب العبد الذي أمر القرآن بعتقه، وحضت السنة على إكرامه، منح الفقهاء السيد حق منع عبيده وإمائه من الزواج، في مناقضة عجيبة لقول الله عز وجل: "وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ" (سورة النور، الآية 32). قال ابن جزي: "ولا يُجبر السيد على إنكاح العبد" (ابن جزي: القوانين الفقهية، ص 133). ورغم أن الآية أمر صريح بمساعتدهم في الزواج، لا بمجرد الإذن لهم في الزواج، فإن جمهور الفقهاء –بمن فيهم المالكية- حملوا الأمر هنا على الندب أو الإباحة، لا على الوجوب، فجعلوا معنى الآية أن السيد يجوز له الإذن لعبده في الزواج "وهو محمل ضعيف في مثل هذا المقام إذ ليس المقام مظنة تردد في إباحة تزويجهم" (ابن عاشور: التحرير والتنوير 18/215). ومن أسوإ أنواع الاستدلال استدلال بعض الفقهاء على حق السيد في منع عبده من الزواج بقوله تعالى: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ" (سورة النحل، الآية 75) رغم أن السياق القرآني جاء ذاما لهذه الحالة لا مقرا لها، كما أن الآية تندرج ضمن الخطاب الخبري القدري، لا الشرعي التكليفي.
كل هذا حرصا على عدم إنقاص قيمة العبد المالية. هكذا فسر القرافي الأمر بالقول: "ووجه تعلق حق السيد أن زواج العبد يُنقص الرغبات فيه، لتعذر نقْلته من بلده، لتعلقه بامرأته وذريته، وصرف كسبه لهم سرا وعلانية، وليس له أن ينقص مال سيده بتنقيص ماليته [أي قيمته المالية]" (القرافي: الذخيرة، 4/204). وهذا يدل على أن قول القرطبي: "والنكاح وبابه إنما هو من المصالح، ومصلحة العبد موكولة إلى السيد هو يراها ويقيمها" (تفسير القرطبي 12/241) إحسان للظن بالسادة في غير محله: فمصلحة العبد مناقضة لمصلحة السيد هنا، بل الأصل أن تكون مناقضة لها دائما. وإذا تحدى العبد إرادة السيد وتزوج على سنة الله ورسوله طلبا للعفاف كما يفعل كل المسلمين، فإن للدسوقي رأيا خاصا في ذلك، وهو أن هذا الزواج "وإن كان صحيحا إلا أنه غير مبيح للوطء، لأن للسيد الخيار [في إقراره أو فسخه]" (حاشية الدسوقي، 2/215).
وحتى العبد المكاتَب الذي يعتبر حرا أو على طريق الحرية على الأقل، فقد منعه الفقهاء من الزواج دون إذن السيد. وكما جعل الفقهاء الإحرام عيبا في العبد جعلوا زواجه عيبا أيضا، لأنه في نظرهم ينقص من قيمته المالية!! فقد ورد في المدونة: ”قلت [سحنون]: أريت إن تزوج المكاتب امرأة بغير إذن سيده رجاء الفضل، أترى النكاح جائزا؟ قال [ابن القاسم]: لا يجوز، لأنه إن عجز رجع إلى السيد معيبا، لأن تزويج العبد عيب" (المدونة 2/138). ثم جعلوا من حق السيد مصادرة وتملك الصداق الذي دفعه العبد في زواجه ذاك: "قلت [سحنون]: أريت العبد إذا تزوج بغير إذن سيده فنقد مهرا، أيكون للسيد أن يأخذ جميع ذلك في قول مالك؟ قال [ابن القاسم]: نعم" (المدونة 2/133).
وجعل جمهور الفقهاء صداق الأمة ملكا لسيدها، رغم صريح القرآن الكريم في إيتائها صداقها، حيث قال تعالى عن تزويج الإماء: "فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" (سورة النساء، 25). وتسامح بعضهم مع الأمة فترك لها ربع دينار من صداقها. قال القرافي: "وللسيد أخذ صداق الأمة إلا ربع دينار، لأنه حق الله تعالى" (القرافي: الذخيرة، 4/240) وهو تفصيل عجيب. وأعجب منه قول الخرشي: "إن السيد إذا زوج أمته ثم قتلها، فإنه يُقضى له بأخذ صداقها من زوجها، بنى بها أم لا، ويتكمَّل عليه الصداق بالقتل، إذ لا يُتَّهم السيد في قتل أمته ليأخذ صداقها"!! (الخرشي: شرح مختصر خليل 3/223).
إن مشكلة الفقه المالكي –وكل الفقه الإسلامي- مع قضية الرق ترجع إلى تحدٍّ أخلاقي وإنساني واجه كل الحضارات، وهو توسيع فكرة الحقوق وتعميمها على الكافة، بدل احتكارها للخاصة، سواء كانت تلك الخاصة طبقة اجتماعية، أو جماعة دينية، أو مواطني بلد بعينه. لقد كانت لدى اليونان حقوق سياسية ومدنية واضحة، وإلى أثينا ترجع فكرة المواطنة كما نعرفها اليوم. لكن حقوق المواطَنة اليونانية لم تكن عامة، بل تم استثناء النساء والعبيد منها، إضافة إلى استثناء من دعاهم اليونان "برابرة" من الشعوب غير اليونانية. يقول المؤرخ وِل ديورانت: "هاهو ذا أفلاطون يندد باستعباد اليونان لليونان، ولكنه فيما عدا هذا يقر الاسترقاق بحجة أن لبعض الناس عقولاً غير ممتازة. وينظر أرسطو إلى العبد على أنه آلة بشرية." (ديورَانت: قصة الحضارة، 7/67).
ومثل ذلك يقال في الامبراطورية الرومانية التي استثنت العبيد والفقراء والنساء من الحقوق السياسية، رغم أنها عممت تلك الحقوق بشكل أفضل مما فعله اليونان، فشملت العوام والشعوب الخاضعة، بل كل الأحرار داخل الامبراطورية الرومانية. على أن الرومان لم يعمموا المواطنة بمعنى حق المشاركة السياسية، وإنما المواطنة بمعنى حق الحماية، فجعلوا شعوبا كثيرة ضمن رعاياهم، دون أن يكون لهذه الشعوب قول في النظام السياسي الذي يحكمهم من روما.
ولدينا في الاستعمار الحديث أعظم عبرة: حيث صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من باريس في وقت كانت فرنسا فيه تحتل بلادا شاسعة، وتستعبد شعوبا كثيرة في إفريقيا. ومثل ذلك يقال عن الازدواجية التي تطبع علاقة أميركا بالشعوب الإسلامية اليوم. وقد عبر لي الدكتور روبرت كرين –وهو أكاديمي أميركي مسلم- عن ذلك تعبيرا بليغا فقال: "إن الناس في العالم الإسلامي يظنون أن أميركا لا تؤمن بحقوق الإنسان. الحقيقة أن أميركا تؤمن بحقوق الإنسان، لكن لديها مشكلة في تعريف الإنسان". وهو يقصد أن ليس كل البشر داخلون في مفهوم الإنسان في العرف الأميركي.
وقد شابت الفقهَ الإسلامي شوائبُ من هذه الازدواجية والمثنوية في النظرة إلى حقوق البشر وحرياتهم، فظهر فيه تأثر بهذا المنزع لدى الخاصة في احتكار الحقوق دون العامة، سواء كانت حقوقا سياسية أو حقوقا اجتماعية. ويتبين عند التمحيص أن هذه الشوائب متسربة من أعراف المجتمع وتحيز بعضه ضد بعض، وليست مستمدة من صريح الوحي الذي أنزله الله تعالى ليقوم الناس بالقسط. وتزداد هذه الازدواجية في الفقه كلما ابتعدت بوصلته عن النص القرآني في قضية الحرية عموما، سواء كانت حرية سياسية تتعلق بحق الأمة باختيار قادتها ومحاسبتهم وعزلهم، أو الحرية الاجتماعية، وأهمها التحرر من تملك الإنسان لرقبة أخيه الإنسان، وهدر إنسانيته بالتحكم في حياته.
واقرأ مثلا قول رجل من أبرز رجال علم الأصول والفقه الشافعي -هو إمام الحرمين الجويني- في موضوع الحرية السياسة: "ما نعلمه قطعا أن النسوة لا مدخل لهنّ في تخيّر الإمام وعقد الإمامة... وكذلك لا يُناط هذا الأمر بالعبيد وإن حازوا قصب السبق في العلوم، ولا تعلق له بالعوام الذين لا يعدون من العلماء وذوي الأحلام، ولا مدخل لأهل الذمة في نصب الأئمة. فخروج هؤلاء عن منصب أهل الحل والعقد ليس به خفاء." (الجويني، غياث الأمم في التياث الظُّلَم 1/49). فما الذي بقي من الأمة للقيام بواجب الشورى الذي وردت النصوص به عامة مطلقة؟! وذهب أحد أعلام المالكية وهو القاضي أبو بكر بن العربي إلى أخطر من هذا في ميدان الحقوق السياسية، حينما ذهب إلى أن "واحدا أو اثنين تنعقد بهما الخلافة وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعا" (ابن العربي: العواصم من القواصم، ص 148).
ليس من ريب أن هذا الفقه الذي لا يعرف معنىً لتعميم الحقوق والحريات قد ابتعد أشواطا عن روح القرآن وما تحمله من عدل وحرية ومساواة بين البشر، وأنه أعان –بحسن نية- على إهدار دماء معصومة واستحلال أموال محرمة. وصيانة دماء الناس وأموالهم وأعراضهم من أصول الأحكام لا من فروعها، بل هي أصل الأصول ومقصد الشرع. وما أجدر من يستفزهم انتقاد فهوم الفقهاء في هذا الشأن أن يأخذوا بنصيحة الحافظ عبد الرحمن بن الجوزي: "لا ينبغي أن تسمع من معَظَّم في النفوس شيئًا في الأصول فتقلده فيه، ولو سمعت عن أحدهم ما لا يوافق الأصول الصحيحة، فقل: هذا من الراوي؛ لأنه قد ثبت عن ذلك الإمام أنه لا يقول بشيء من رأيه. فلو قدرنا صحته عنه فإنه لا يقلَّد في الأصول لا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما. فهذا أصل يجب البناء عليه، فلا يهولنَّك ذكر مُعظَّم في النفوس." (ابن الجوزي: صيد الخاطر، ص 134).