"حلف الفضول" تجربة إنسانية متجددة / حمزه ولد محفوظ المبارك

يعتبر استدعاء النماذج المضيئة من تاريخ البشرية  و الأحداث ذات البصمة الإنسانية و المواقف النبيلة التي تخدم جمال الحياة؛ و سيلة في غاية الأهمية لإحياء القيم السامية و تعزيز منظومة الأخلاق التي على أساسها تحفظ الحقوق و تنمو العلاقات بشكل طبيعي يجد فيه كل كائن ذاته الأصيلة و حقه في العيش دون منة من أحد.

جميع الناس "يولدون أحراراً و متساوين في الكرامة و الحقوق و عليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء" هكذا جاء في المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10ديسمبر 1948م عقب الحرب العالمية الثانية و ما خلفته من ويلات فتكت بكل القيم النبيلة و جردت الناس من كل أسباب الكرامة!

جاء هذا الإعلان من ثلاثين مادة تؤطر العلاقة بين بني البشر في عالم متعدد الأعراق و الثقافات و الديانات، بإجماع دولي يشي بمدى حاجة الناس في كل زمان و مكان إلى السكينة و العافية و السلام، إلى التلاقي و الحوار و التعايش.

هذا الميثاق الحديث و الذي يعتبر من أهم المواثيق الأممية لم يكن سابقة لا في شكله و لا في جوهره، فقبل أربعة عشر قرنا من إعلانه؛ ولد من رحم الظلم حلف من أعظم الأحلاف الأخلاقية على مر التاريخ، سمي حينها ب"حلف الفضول"، لما فيه من إحقاق الحق و رد الفضول لأصحبها في بيئة جاهلية كانت قد امتلأت نزاعات و عصبيات و حروب استنزاف تافهة الأسباب، و في مجتمع يئد البنات، و يقتتل أربعين سنة حمية لناقة أو جمل!

مما ينقُلُه التاريخ عن ذلك المجتمع الجاهلي و سيادةِ منطق القوة فيه: أنه إذا قابل صاحب ظعينة آخرَ ليس من قبيلته و لا من قبيلة لها معها حلف، تقاتَلا، فإذا قُهِر صاحبُ الظعينة، أُخِذت منه سبيةً فاستحلَّها بذلك الغالب، ليلحق العار أبناء هذه السبية مدى الحياة؛ لذلك كان مِن مفاخر الرجل منهم أن تكون أُمُّه حرَّةً نَسِيبة، لا سبيَّة جَلِيبة!

و كانت ذاتية الفرد ذائبةً في "جماعية" القبيلة؛ فهو تابع لها، ذائب فيها، في الشر و الخير على حد قول الشاعر:

السيف أصدق إنباء من الكتب**في حده الحد بين الجد و اللعب

و حرصًا على مكانة القبيلة و هيبتها في مجتمع الدمِ و العدوان و القوة هذا، كانت القبيلةُ تنصُرُ مَن ينتسب إليها أو يحالفها؛ ظالِمًا كان أو مظلومًا، فإذا لم تفعل ذلك لحِقَتها المسبَّة و المعرَّة؛ يقول قريط بن أنيف العنبري:

لو كنتُ مِن مازنٍ لَم تستبِحْ إبلي**بنو اللقيطةِ مِن ذُهلِ بن شيبانا 

إذًا لقام بنَصْري معشرٌ خُشُن**عند الحَفِيظةِ إنْ ذو لُوثةٍ لانا 

قومٌ إذا الشرُّ أبدى ناجذَيْهِ لهم**طاروا إليه زرافاتٍ و وُحْدانا 

لا يسأَلون أخاهم حين يندُبُهم**في النائباتِ على ما قال بُرهانا 

لكنَّ قومي و إن كانوا ذوِي عددٍ**ليسوا مِن الشَّر في شيءٍ و إنْ هانا 

يجزُون مِن ظُلم أهلِ الظلم مغفرةً**و مِن إساءة أهلِ السُّوء إحسانا

كأنَّ ربَّكَ لم يخلُقْ لخشيته**سواهم مِن جميع الناسِ إنسانا

من رحم هذه البيئة الدموية خرج حلف الفضول الذي تشكل على إثر مظلمة زبيدي صعد جبل أبي قبيس بعدما ضاقت به الأرض و تقطعت به السبل و أيقن ضياع تجارته التي استحوذ عليها العاص بن وائل -أحد سادات قريش- و منعه حقه، فاستنجد الزبيدي فلم ينجده أحد، بل انتهروه، لينشد و قريش في أنديتها عند طلوع الشمس:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته ** ببطن مكّة نائي الدار و النفر

و محرم أشعث لم يقض عمرته ** يا للرجال و بين الحجر و الحجر

إنّ الحرام لمن تمت كرامته ** و لا حرام لثوب الفاجر الغدر

فاجتمعت قبائل قريش، و تم الحلف، و قال الزبير بن عبد المطلب: "ما لهذا مترك" أي: لا نتركه حتى نرد له حقه، و بالفعل ساروا إلى العاص و ردوا إلى الزبيدي تجارته في مشهد إنساني مؤثر!

حلف الفضول هو أحد أحلاف الجاهلية الأربعة التي شهدتها قريش، و قد عقد الحلف في دار عبد الله بن جدعان التيمي القرشي أحد سادات قريش و ذلك بين عدد من عشائر قبيلة قريش، في شهر ذي القعدة سنة 590 م بعد شهر من انتهاء حرب الفجار بين كنانة و قيس عيلان، توافق عليه بنو هاشم و بنو تيم و بنو زهرة حيث تعاهدوا فيه على أن: (لا يظلم أحد في مكة إلا ردوا ظلامته)،

و قد شهد النبي صلى الله عليه و سلم هذا الحلف قبل بعثته و له من العمر 20سنة، و قال عنه لاحقا: "لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، و لو دعيت به في الإسلام لأجبت".

"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" هكذا قال النبي صلى الله عليه و سلم إذ أنه رغم الجاهلية التي كانت تفتك بالسلم و الأمن و تلغي الحقوق و تعزز الفوارق الجائرة إلا أن المشهد القرشي في تلك الحقبة لم يخل من أحداث مضيئة و خلال حميدة جاء النبي صلى الله عليه و سلم لتعزيزها و ليتممها بعدل و رحمة.

بعث النبي صلى الله عليه و سلم رحمة للناس كافة، لم يفوت فرصة للسلام و السكينة على امتداد سني دعوته المباركة، ففي صلح الحديبية كان موقفه حاسما رغم ما رأى الصحابة من إجحاف لهم في بنود الصلح، حيث قال لهم "والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلى أعطيتهم إياها"

و بعد التمكين للمسلمين في الأرض، تأسست الدولة المحمدية على حلف واسع تساكن فيه المسلمون و المسيحيون و اليهود "لا إكراه في الدين" حيث نصرة المظلوم و عون الضعيف و إكرام عابر السبيل و الحكم بالحق و إشاعة مكارم الأخلاق و إفشاء السلام و إطعام الطعام، و تحريم الرذائل، و قد كان ذلك سببا في دخول الناس الإسلام و دعوتهم له.

التاريخ الإسلامي مشع بنماذج كثيرة من الوفاء بالعهود و المواثيق و احترام الأحلاف التي تعزز السلم و العدل و تنصف المظلوم و تعطي كل ذي حق حقه.

"حلف الفضول" كتجربة إنسانية، بات إطارا بل و حاضنة تبعث الأمل في نفوس صناع الحياة من بني البشر الذين تأبى أنفسهم العدوان بفطرتهم الإنسانية السليمة لذلك و لما شهده عصرنا الحالي من استهتار بالإنسان في مجتمعاتنا و استخفاف بكرامته و هوان دمه في ظل حروب كبدت الإنسانية خسارة أغلى ما تملك من أنفس زكية و أوطان عظيمة أصبح من اللازم تحرك العقلاء لإطفاء الحريق و إنقاذ الغريق، فكانت مبادرات شيخنا العلامة عبد الله بن بيه التي انطلقت بإنشاء منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة الذي احتضنته دولة الإمارات العربية المتحدة و دعمته بكل أسباب القوة و النجاح، حيث استطاع في ظرف وجيز استقطاب مئات العلماء و الفلاسفة و المفكرين و الباحثين من جميع دول العالم الإسلامي للنظر بعمق في حال أمتنا المريضة بالفهم السقيم و التأويل الخاطئ للنصوص، المبتلاة بمفاصلات عبثية و فناء داخلي رهيب!

و بالفعل كان للمنتدى دوره المهم في إبراز الوجه الحقيقي للإسلام من خلال خطابه الرحيم و دعوته الحكيمة للتعقل و الانهزام للمصلحة العامة و ردوده المفحمة على دعاة العنف و الاقتتال، فعقد لذلك مؤتمرات إسلامية و عالمية تناولت مركزية السلم في تحقيق العدل تأصيلا و تفصيلا، إضافة إلى "وثيقة مراكش" التي أسست لفكرة إنشاء حلف فضول يضم أولي بقية من جميع الدينات السماوية يشكلون اتحادا للعائلة الإبراهية في وجه الاستخدام السيء لطاقة الدين في الصراعات.

تنطوي فكرة "حلف الفضول" الذي يدعو له الشيخ عبد الله بن بيه على تحميل المسؤولية لجميع أتباع الديانات في مواجهة النزعات الاجتثاثية، الإقصائية على أساس الانتماء الديني و الطائفي و حتى العرقي لأن جميع الحروب التي تنشأ في هذا العصر يقحم فيها الدين كعامل ارتكاز حقيقي، فلا حرب و لا صراع يندلع في أي نقطة من العالم إلا و استندت أطرافه على الدين لتشريع الفظائع التي ترتكب.

في ظل هذا الوضع الحرج نحن بحاجة إلى حلف يضم حكماء و عقلاء كل الديانات السماوية لوقف استخدام الدين كطاقة دمار و خراب، و تصحيح الوضع القائم على أساس ما جاء في الكتب السماوية من إعلاء لشأن الإنسان و حفظ كرامته بغض النظر عن جنسه و لونه و طائفته و ديانته "و لقد كرمنا بني آدم و حملناهم في البر و البحر و رزقناهم من الطيبات و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"

إن قوافل السلام التي حركها منتدي تعزيز السلم و التي تضم ممثلين عن كل الديانات السماوية و مؤتمراتها التي عقدت في الإمارات و المغرب و في أمريكا و الحركة المباركة التي جابت بلدانا مختلفة مثل كندا و اليابان و سنغفورة و الصين و غيرها من الدول ذات التأثير العالمي... لتعبر عن استعداد العقلاء لإيجاد مخرج واسع للعالم من ويلات الشحناء و البغضاء و الحروب، إنه جهد نبيل و نهج قويم لازال يؤتي ثماره حتى يعم الأمن و السلام بحول من الله و فضل.

 

 

3. فبراير 2019 - 18:05

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا