تابعت باهتمام بالغ حلقة متميزة من برنامج "في الصميم" مساء أمس، ناقش فيها الإعلامي أحمدو ولد الوديعة مع الدكتور بدي ولد أبنو، كتابه الجديد "موريتانيا إلى أين؟" الصادر مؤخرا. كان نقاشا شيقا ومفيدا رغم محدودية الوقت المتاح، ورغم كثرة وأهمية الإشكاليات المختلفة التي يثيرها ويعالجها الكتاب. كانت فرصة مواتية لإنارة الرأي العام من طرف المؤلف حول كتاب هام يبدو أن فيه الكثير من التاريخ والحاضر.. مع استشراف للمستقبل. وهو يمتاز بطابعه العلمي البعيد عن النزعة السجالية السياسوية السائدة في أوساط النخب والمثقفين..
استوقفني عمق تحليل الدكتور بدي ولد أبنو، في تأصيله لتاريخية الدولة الريعية في هذه البلاد.. وحديثه عن خيبة الأمل التي تعرضت لها بعد انحسار ريع خامات مناجم الحديد بسبب اندلاع حرب الصحراء، وتعطل تصديره سنة 1977. وقد ربط المؤلف هذا الموضوع باحتمالات المستقبل في ضوء التسريبات حول أهمية الريع المنتظر من استغلال الغاز الطبيعي، والتي من بينها إمكانية حصول خيبة أمل جديدة قد تقود- لا قدر الله- إلى صدمة كبيرة وما قد ينجم عنها من تداعيات خطيرة على استقرار البلاد ومستقبل السلم الأهلي..
"موريتانيا إلى أين؟" هو سؤال كبير.. سؤال محوري.. سؤال وجودي..
وقد ذكرني نقاش الكتاب ليلة أمس بندوة علمية نظمها المركز المغاربي للدراسات الإستراتيجية في السنة بنفس العنوان.. وقدمت فيها ورقة تحت عنوان "قراءة في آفاق ديناميكيات التغير الإجتماعي والسياسي". أثرت فيها كيف أن هذا التساؤل -رغم نبرته prétentieuse فهو يطرح الهاجس الإستراتيجي حول استمرار وجود الدولة في هذه البلاد، وآفاق استقرارها، ضمن الحوزة الترابية، والتشكيلة السكانية الحالية في المستقبل المنظور.. وكل ما يطرحه ذلك من.. إشكاليات.. ورهانات.. وصعوبات.. وتداعيات.. كل ما يترتب على ذلك من تقدير للمسؤوليات.. واتخاذ للمواقف .. وبلورة للتوجهات..
وإذا انطلقنا من هذا المنظور الجيو-استراتيجي من خلال ربطه بديناميكيات التغير السياسي والاجتماعي التي لا تنفصم بين الدولة والمجتمع، فهل ستبقى موريتانيا بشكلها الحالي مستقرة على المدى المتوسط أي في منظور 15 إلى 25 سنة قادمة؟
كما ذكرني نقاش الكتاب ليلة أمس بأبحاث قمت بها منذ أكثر من خمس سنوات حول التاريخ الإقتصادي الشائك والمعقد لإستغلال المناجم في موريتانيا، وحساسية ارتباطه بالسياسة والتنمية الإقتصادية والاجتماعية في هذا البلد.. أو إشكالية الريع وبناء الدولة كما سماها المؤلف.. إنه حقا موضوع مقلق.. ولا شك بأنه هذا القلق سيتجدد بشكل ملح وربما نزق مع موضوع ريع الغاز المنتظر والآمال الكبيرة المعلقة عليه للنهوض بالواقع الاقتصادي والاجتماعي المزري في البلاد والحد من معاناة ساكنتها.
لكن سبحان الله.. فبين مغامرة استغلال الشركات الغربية متعددة الجنسيات لخامات الحديد والغاز الطبيعي في موريتانيا، يكاد التاريخ يعيد نفسه بنفس السيناريوهات، وإن اختلفت قليلا الجزئيات. لا يعرف الكثيرون منا بأن "ميفرما" MIFERMA أو "مناجم حديد موريتانيا" هي شركة دولية متعددة الجنسيات يملكها أساسا القطاع الخاص، حيث تشكلت من 3 شركات فرنسية، و3 شركات بريطانية، وشركة كندية وشركة ألمانية وشركة إيطالية، بالإضافة إلى أكبر مجموعة مصرفية يهودية في العالم هي بنوك وشركات "روتشيلد" للتعدين. ولا يعرف الكثيرون منا بأن مجموعة "روتشيلد" المصرفية كانت تملك حوالي ربع أصول شركة ميفرما، إلى جانب امتلاكها نفس الحصة تقريبا من شركة معادن نحاس موريتانيا MICUMA قبل أن تتحول إلى "سوميما"، وتباع إلى شركة انجليزية-أمريكية تابعة للمجموعة اليهودية Oppenheimer، التي كانت تسيطر على مناجم النحاس في إقليم روديسا سابقا أي دولتي زامبيا وزمبابوي حاليا.
تأسست شركة "ميفرما" يوم 16 فبراير سنة 1952 من أجل استغلال مناجم الحديد في أوزيرات من خلال صيغة أقرب ما تكون إلى النهب الممنهج.. وللتوسع في الموضوع، بإمكان القراء الرجوع إلى كتاب "ميفرما: مغامرة إنسانية وصناعية في موريتانيا"، لمؤلفه "جان أوديبير" Jean Georges AUDIBERT (1921-1989)، وهو مهندس فرنسي، متخصص في المعادن، كان مديرا عاما لشركة "ميفرما" بين عامي 1956 و 1972، كما كان آخر رئيس مجلس إدارة لها، عندما حدث التأميم سنة 1974. وقد أسس "جان أوديبير" مدينة أوزيرات في موقعها الحالي..
الغريب آنذاك أن البنك الدولي قد وفر التمويل للشركة بمبلغ 66 مليون دولار أمريكي بتوصية خاصة من البارون اليهودي المتنفذ "غي دي روتشيلد". وقد دشنت بذلك شركة "ميفرما" سابقة في تاريخ الإستثمار العالمي، فلم يسبق للبنك الدولي أن أعطى تمويلات لشركة من القطاع الخاص. حدث ذلك بسنوات قبل إنشاء البنك الدولي لجناحه الخاص بتمويل القطاع الخاص الذي يعرف بـSFI أو الشركة المالية الدولية.
أما الحكومة الموريتانية فلم يكن لها من نصيب يذكر كالأيتام في مأدبة اللئام.. فقد رصدت لها ميفرما مساهمة لا تتجاوز نسبة 5 % فقط تساهم في رأس مال الشركة، على أن تسدد أقساطها بعيد الإستقلال ابتداء من سنة 1963؛ بينما بلغت أسهم مجموعة شركات "روتشيلد" وحدها حوالي 20% من رأس مال الشركة.
تمكنت ميفرما من تصدير كميات هائلة من خامات الحديد فائق الجودة إلى الخارج ما بين سنتي 1963 و 1974، تصل تقديراتها الصرح بها آنذاك، إلى حوالي 120 مليون طن من خامات الحديد فائق الجودة من مقالع الحديد في مدينتي أوزيرات وأفدريك ونواحيهما.
قامت الحكومة الموريتانية بتأميم شركة ميفرما في 28 نوفمبر 1974، ودفعت حينها للمساهمين الأجانب تعويضا ماليا يقدر بـ 110 مليون دولار امريكي، دفعت منها الكويت 40 مليون قرضا والباقي منحه العراق والجزائر وليبيا والسعودية هبة. ومنذ ذلك التاريخ، أحيلت ممتلكات ميفرما و صلاحياتها إلى شركة وطنية تأسست على الورق سنة 1972 تسمى "سنيم"؛ لتبدأ بذلك مغامرة أخرى.. سبق لي أن رسمت ملامحها المأساوية في قصيدة نثرية بعنوان "رسم أوزيرات: أسطورة من حديد"..
أما بخصوص تسمية كدية الجل بـ "جبل الحديد"، فلم أتمكن جيدا من سماع ما ذكره الدكتور بدي عنها، لكني أتذكر بأني وجدت خلال الأبحاث التي قمت بها آنذاك، بأن هذه التسمية تعود للقرن الحادي عشر الميلادي، حيث ذكرها الرحالة والجغرافي المشهور أبو عبيد الله البكرى، وقد وردت نفس التسمية - نقلا عنه- لأول مرة في المؤلفات الغربية تحت اسم "Iron Mountain" بالإنجليزية أو "Idrar in Ouzzal" بالأمازيغية في كتاب Raymond Mauny وهو موجود عهدي به على موقع Google Books
كما تذكر المصادر بأن بداية اهتمام الفرنسيين بجبل الحديد تعود إلى مقال نشره باحث فرنسي في نهاية القرن التاسع عشر في صحيفة فرنسية، حول نتائج تحليل أجري على حجر من كدية الجل، جاء به أحد الرحالة الفرنسيين. وقد بينت تلك النتائج بأن جودة مادة الحديد ونقاءها من الشوائب أفضل من الحديد البرازيلي الذي كان الأفضل جودة حينها.
ومنذ بداية القرن العشرين، بدأ المستعمر الفرنسي ينظر إلى "كدية الجل" ككنز من الحديد في صحراء بلا بواب، خاصة بعد تواتر العديد من التقارير والإخباريات التي كتبها الجنود الفرنسيون والباحثون حولها، قبل أن تقوم بعثات مختلفة بالاستكشاف والبحث الجيولوجي الميداني في "كدية الجل" في منتصف خمسينيات القرن الماضي.
وعموما، يمكن اختصار قيام الدولة الموريتانية الحديثة، من جمهورية الحديد في "كدية الجل" إلى جمهورية الغاز في آحميم.. في رحلة لا تخلو من مغامرات.. وآلام وآمال.. وأحلام حيكت في الغالب بشكل أسطوي حول العصا السحرية التي يمكن للريع أن يحل بها جميع المشاكل ويتغلب على جميع العقبات في هذه البلاد.. لكن في نهاية المطاف.. كانت دائما تطل خيبات الأمل على غير ميعاد..
قاد اكتشاف وجشع الشركات الغربية متعددة الجنسيات لإستغلال خامات الحديد في الخمسينيات إلى إنشاء الدولة الموريتانية..
انهار تصدير الحديد بسبب حرب الصحراء.. فقاد ذلك إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية؛
قادت الإنقلابات العسكرية إلى أزمة حكم وتداول السلطة..
قادت أزمة حكم وتداول السلطة إلى الاستبداد وغياب الديمقراطية..
قاد الاستبداد وغياب الديمقراطية إلى الصراع على السلطة ودفع الثمن في مجال حقوق الإنسان وانعدام الإستقرار، وضعف التنمية الإقتصادية والإجتماعية..
قاد الصراع على السلطة وتردي حقوق الإنسان وانعدام الإستقرار، وضعف التنمية.. إلى عودة التهديد الدولي...ومساومة الأنظمة على البقاء..
قادت عودة التهديد الدولي...ومساومة الأنظمة على البقاء.. إلى الارتماء في أحضان إسرائيل.. إضافة إلى مراعاة المعطى الدولي /فلسطين/إسرائيل؛
قاد الارتماء في أحضان إسرائيل البلاد إلى التوترات الداخلية وظهور الإرهاب..
قادت التوترات الداخلية والاعتراف بإسرائيل وظهور الإرهاب إلى تعميق الصراع على السلطة.. وتجدد الانقلابات العسكرية باسم تصحيح الديمقراطية..
قاد تعمق الصراع على السلطة.. وتجدد الانقلابات باسم تصحيح الديمقراطية.. إلى الوضع الراهن..
الوضع الراهن.. وفي ضوء الريع المنتظر من الاستغلال المستقبلي للغاز الطبيعي.. لا أحد يعرف إلى أين يمكن أن يقود البلاد؟
انواكشوط، 7 فبراير 2019
محمد السالك ولد إبراهيم
باحث وخبير استشاري