كثيرة هي المفارقات في التاريخ العام، أما في التاريخ السياسي فحدث و لا حرج. و إذا كان في "إلف ليلة و ليلة" من الأعاجيب ما فاق كل خيال، فقد عشنا هذا الأسبوع تزامنا عجيبا لحدثين أحدهما يجري في نواكشوط و الآخر يجري في بروكسل تمكن إضافته إلى عجائب شهرزاد.
الحدث الأول : الزمان : الاثنين 4 فبراير 2019. المكان : مستشفى القلب الجديد في نواكشوط. الحدث : رئيس منظمة نجدة العبيد و المنسق العام المساعد المؤسس ل"ميثاق لحراطين" ببكر ولد مسعود يخرج من غرفة الإنعاش إلى غرفة حجز عادية بعد أن تجاوز حالة الخطر، و بدأ يتلقى الزيارات بعد حالة القلق التي انتابت الرأي العام الوطني بعد تدهور الحالة الصحية لهذه الشخصية الوطنية الكبيرة، في ظل ضعف ثقة الجمهور بالمؤسسات الطبية الوطنية، و استغراب الكثيرين لعدم مبادرة الحكومة إلى رفعه للعلاج خارج البلاد. ربما لمعرفتهم أن هذا المناضل الكبير ليس لديه من المال ما يمكنه من أن يدفع فاتورة علاجه في الخارج.
الحدث الثاني : الزمان : نفس يوم الحدث الأول . المكان : مؤسستان من "الأوقاف الكاثوليكية" في بروكسيل، "جامعة كولفن" و "كنيسة القديس بيتر". الحدث : النائب البرلماني، زعيم "مبادرة انبعاث الحركة الإنعتاقية – إيرا" و المرشح الرئاسي في رئاسيات 2019 - بعد الترشح قبلها لرئاسيات 2014 - يتسلم الدكتوراه الفخرية بصفته "المحامي برام"، تقديرا لنضاله الحقوقي، و يحضر القداس الذي ترأسه "الكاردينال جوزيف دي كيسل" الذي هو كذلك المستشار السامي بالجامعة المذكورة. و بالطبع لابد من التنويه إلى أن هذه الجائزة إنما هي الحلقة الجديدة في سلسلة طويلة من الجوائز الأمريكية و الأوربية و الأممية التي حصل عليها برام ولد الداه ولد أعبيدي، و في معظم الحالات كانت الجوائز مصحوبة بمبالغ مالية معتبرة.
ما العجيب في تزامن هذين الحدثين و أين المفارقة ؟!
التاريخ المقارن للرجلين المنحدرين من نفس الولاية يجيب : عندما ولد برام ولد الداه ولد اعبيدي عام 1965 كان ببكر ولد مسعود طالبا منذ سنة بمدرسة المهندسين في باماكو، و ذلك بعد حصوله على الشهادة الإعدادية. و قد ولد الفتى يتيما من جهة الأب، و لما بلغ العاشرة توفيت أمه بالوباء بعد أن حبست مع سيدتها المصابة. و لم يدخل "ببكر" المدرسة إلا بعد أن سمع مديرها الفرنسي بكاءه بسبب منع سيده له من التسجيل. و في عام 1967 غادر ولد مسعود إلى موسكو في منحة دراسية في الهندسة المعمارية، قبل أن يعود مهندسا معماريا عام 1974، و يصمم المخطط العمراني لحي "سوكوجيم"، قبل أن يتولى لفترة إدارة الشركة. و في عام 1988 تخلى الرجل عن القطاع العام و أسس مع زوجته الإيطالية مكتبا للدراسات و التخطيط العمراني، كمؤشر على استقلاليته مقارنة إلى الكثير من المناضلين من "الحر" و من مختلف التيارات الذين كانوا مرتهنين للوظائف الحكومية.
بالمقابل كان أسياد أسرة برام في بعض - لا كل رواياته - كرماء مع الوالدة و الأسرة، وعاش هو في كنف والديه. حصل على باكالوريا الآداب الفرنسية عام 1985، و دخل كلية الحقوق لكنه لم ينتظم دراسيا و فضل استعجال الوظيفة حيث اكتتب كاتبا للضبط، ليتنقل بين محاكم متعددة منها النعمة و نواذيبو. ثم عاد الرجل إلى الجامعة من بوابة قسم التاريخ عام 1997 ليحصل على المتريز عام 2000. هنا انتقل إلى جامعة داكار حيث حصل على شهادة الدراسات المعمقة في التاريخ. و انتهى به المسار المهني إلى عضوية اللجنة الوطنية المستقلة لحقوق الإنسان.
قارن بين حالة اليتيم المعدم الرازح تحت العبودية و الذي يزعج الجميع بالبكاء حرصا على دخول المدرسة، و لا يوقف دراسته حتى يتم التكوين العلمي المتخصص، ثم يتجه للعمل بنشاط في قطاعه التخصصي، مقابل حالة شاب يحظى بالتشجيع من الأسرة و من الأسياد السابقين، و لا يواصل المسار التعليمي إلا بصفة متقطعة و غير مكتملة، ستعوضها السياسة و الشهادات الفخرية من الغرب.
و من جهة المسار النضالي، كان "ولد مسعود" يسمى في المدرسة الابتدائية - سنوات قبل ميلاد برام - "ببكر لعبيد" مما يعتبر شهادة له على إطلاق النضال في سن مبكرة. و في عام 1975 - يوم كان برام في العاشرة يتلقى التأطير الإيديولوجي من والده حسب ما قال في خطابه في بروكسل - كان ببكر ولد مسعود مع زملائه يضعون اللمسات الأخيرة على عملية إطلاق حركة الحر. التي ظل نشطا فيها من 1978 و حتى 1992. و هي السنة التي شارك فيها تحت قيادة "مسعود ولد بلخير" في تأسيس "حركة أفديك" الممهدة لقيام حزب "إتحاد القوى الديمقراطية"، الحزب الأم لأحزاب المعارضة التقليدية.
أما "برام" فلا حديث عنه في الفترة الخاصة بالنضال السري في حقبة "الحر"، و يوم انطلق المسار الديمقراطي التعددي عرف بكونه ناشطا في "الحزب الجمهوري" من البوابة القبلية، حيث كان منتميا إلى أحد الأجنحة السياسية في القبيلة. و إذا كنا نعرف أن لوبيات الحزب الجمهوري كانت نوعين، أحدهما قادم من الإيديولوجيات التقليدية و الآخر قادم من المجموعات القبلية، و أن من كوادر الحر من دخل الحزب من الجهة الأولى، فإن في ذلك دليلا على أن صاحبنا - و هو ينبطح عن نضال المعارضة - قد مرر الانبطاح من خلال القناة الإقطاعية التقليدية، التي لم يقطع صلته بها إلى يومنا هذا.
و فيما بعد عندما أتيحت الفرصة للشباب المكبوت أن يتنفس الصعداء بعد الإطاحة بنظام ولد الطايع عام 2005، لم ينتهز برام الفرصة و إنما بحث بين جماعات الحزب الجمهوري - التي تفرقت "أيادي سبأ" - عن سرب يطير معه، و ذلك ما قاده بالنهاية إلى شغل منصب الناطق باسم المرشح الرئاسي الزين ولد زيدان. و لابد من التذكير هنا أن "الحر" كان لها مرشحها الرئاسي في انتخابات 2007 - كما في مختلف الدورات الانتخابية أيام ولد الطايع - ممثلا في شخص الرئيس مسعود ولد بلخير. و كان ببكر ولد مسعود صامدا خلف ولد بلخير في المجال السياسي، رغم تركيزه أكثر فأكثر على العمل المدني و الحقوقي من خلال "منظمة نجدة العبيد".
و "نجدة العبيد" هي المنظمة التي تعلم فيها برام أبجديات العمل الحقوقي، قبل أن يعلن "الإنعتاق" منها، و ذلك حتى لا أقول "التجنبير" عليها. و لا شك أن : إعلان "الإنعتاق" من منظمة أسسها من عرف "الإنعتاقية" اجتماعيا و سياسيا منذ نعومة أظافره، و تسفيه ماضي "حركة الحر" أم الحركات المناضلة في هذا الملف، من طرف شخص لا يشهد له ماضيه بالإنعتاقية الاجتماعية و لا السياسية، لأشبه ما يكون ب"التجنبير على التجنبير". و هذا الخيار لا يمكن أن يقود إلى شيء آخر غير العودة إلى إقطاعية الأسياد أو تغيير الأسياد بأسياد جدد، و كلها خيارات معروفة في العهود الإقطاعية. نوع من "التغيير في ظل الاستقرار" و "الخروج من عبودية إلى عبودية أخرى" (قد نجد إضاءة لبعض هذه المفاهيم في الجزء الثاني من هذا المقال).
و حتى لا يقول برام و أنصاره إنني أتجنى عليهم، أطلب منهم العودة إلى حوار برام مع "فرانس 24" عام 2016 ، عندما فسر أسباب تأسيسه ل"إيرا" و انسحابه من "نجدة العبيد"، قائلا : "كنت في نجدة العبيد لكنها كانت حركة بسيطة غير طموحة، فيها أناس طيبون، لكنهم لا يتحركون إلا إذا وصلت إليهم شكاية". و استفاض بعد ذلك في شرح عدم خوض المنظمة لميدان الثورة الفكرية ضد التراث و الكتب التقليدية، والمجابهة الثورية في الشارع، و عدم لجوئها إلى خيار التدويل. و في نفس المقابلة يقول مبررا رفضه التوقيع على وثيقة "ميثاق لحراطين" : "لم أوقع لأنها مبادرة هدفها الوحيد هو الالتفاف على نضال "إيرا"، و وراءها الكثير من الجواسيس، و المراقبون الدوليون يعرفون أن من له جدارة هو برام، لما دفعناه من ثمن في نضالنا". و لابد من التذكير بأن مسيرة "حركة الجواسيس هذه" حضرها جميع المناضلين التاريخيين من الشريحة و معهم قادة و جماهير الموالاة و المعارضة، و كان العميد المرحوم "همدي" المنسق العام و ببكر ولد مسعود المنسق العام المساعد، و كلاهما كان من أبرز مؤطري برام في الميدان، ف"لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم".
إن المقارنة بين سيرة ذلك الشاب الطموح "برام"، "الواقف" و المؤدي لسنة "الطواف" الكاثوليكية في بروكسل، و ذلك الشيخ المضطجع أو "المتكئ" في مستشفي القلب بنواكشوط، ليست مغامرة صحفية لأحد الكتاب الهواة، أو رد فعل لحظي لأحد الحاقدين على "برام" و الحاسدين له، بمناسبة أحداث عابرة عادية في حياة الرجلين و في مسارات حياة معظم المتصدين للشأن العام. إنها بالعكس تدشين للدخول على خط المشاركة و المساهمة النشطة في قضية وطنية أزعم أنني أكثر إيمانا بها و إحساسا بحيويتها من "برام"، الذي يعتبرها قضية فئة واحدة، و يكاد يعتبرها قضيته هو وحده. و هي ذاتها القضية التي كان رئيس الجمهورية محقا عندما خصص لها مسيرة كبرى و طالب الجميع بالمشاركة فيها. مسيرة وقعت أخطاء في تحضيرها و في استغلالها سياسيا ما شرع للمعارضة و "جماعة الميثاق" مقاطعتها. لكن الطرفين أعلنا أنهما يعارضان الشكل لا المضمون في مسيرة الوحدة الوطنية تلك.
و على هذا الطريق أعتقد أن هنالك الكثير مما قيل و ما يمكن قوله حول تاريخ الاستعباد و الاستغلال, و دور المجتمع و التراث و المؤسسات الرسمية فيه، لكن ثمة أولوية في تناول بعد جوهري مهمل عند الكثيرين و متجنب عن قصد عند الغالبية، لأسباب ليس من الصعب كشفها، هو بعد "النقد الذاتي" و "النقد الوطني" - من قبل المحبين لا الأعداء - لحركة النضال ضد العبودية و ضد مخلفاتها في البلاد. و أنا أتجه إلى هذا البعد بالتحليل لأن أهل النزاهة من نخبة لحراطين، و على رأسهم بوبكر ولد مسعود أعلنوا بقوة و بدون مواربة أن القضية قضية الموريتانيين جميعهم. و لا يمكن للآخرين أن يضعوا "فيتو" ضدنا، و هم يفتحون المجال رحبا للبلجيكيين و الأمريكيين و الفرنسيين و البريطانيين.
و في هذا السياق أبدأ بخلاصة الأطروحة التي توصلنا إليها. و تقوم - من حهة - على اعتبار الوثيقة المعنونة ب "ميثاق من أجل الحقوق السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية للحراطين ضمن موريتانيا موحدة عادلة و متصالحة مع نفسها" الصادرة يوم 30 بريل 2013 خطوة متقدمة على درب الجهد الوطني الداخلي للقضاء على العبودية و معالجة آثارها، و الجمع بين البعدين الحقوقي و التنموي. كما تقوم بالمقابل على اعتبار تأسيس "مبادرة انبعاث الحركة الإنعتاقية" يوم 15 نوفنبر 2008 إطلاقا لمسار التدويل و المتاجرة الخارجية بهذا الملف و تحويله إلى آلية للابتزاز السياسي الخارجي للبلد، مع فتح مجال للتعامل السري و السمسرة غير الشفافة مع الأجهزة الأمنية و أجنحة السلطة، و منح الأولوية المطلقة للبعد الحقوقي مع التسييس و الشحن الفئوي، و تحويل الأنظار عن هموم التنمية المحلية للشريحة و ل"آدواب" و روابط التنمية المحلية فيها.
و سعيا لإضاءة و تحليل هذا التقابل بين رؤيتين نضاليتين للملف، "نضال وطني و محلي" و "نضال مستند إلى العامل الخارجي"، سنسافر- نهاية الأسبوع القادم بإذن الله - في الجزء الثاني من هذا المقال إلى ليبيريا، الدولة الإفريقية الفريدة في تاريخها و سوسيولوجيتها و دورها الإقليمي و الدولي. و ذلك كذلك للقيام بقليل من التاريخ المقارن، هذه المرة بين تاريخي شخصين معنويين، بعد المقارنة بين تاريخ شخصين طبيعيين. و لا شك أن السمر سيكون ممتعا لأن "شهرزاد" لن تروي القصة للطاغية و سيافه بالباب، بل ستتناول فقرات من تاريخ القارة السمراء لأحد المؤمنين بنضال حركات التحرر في القارة، يتميز بكونه هو نفسه مؤرخا و ذواقة للتاريخ.
يتواصل أسبوعيا بإذن الله.