كلمة الإصلاح تارة يزعجها بعض الكتاب في نقده للمعارضة ـ وكيف تدير معارضتها ـ إلى آخره ويقيسها بمعارضة ديمقراطيات بينها وبين ديمقراطية موريتانيا مسافة ما بينهما من تاريخ الإنشاء ، علما بأنه من المعروف أن ديمقراطية موريتانيا تتكون من ما يشبه حيوانات التاجر كل واحدة عليها علامة تختلف عن الأخرى، وطبيعة ما تعارضه في المقابل مثل مصب الوادي الذي لا تقبل السدود أمامه والمعروف أن الديمقراطيات الأخرى جميع ما تقوم به مقنن وهذا القانون ملزم للجميع ، بخلاف موريتانيا فالمكتوب شيء لا يعنى السلطة التنفيذية، فالكاتب في موضوع النقد يعرف أن المعارضة تشمل من يقول أن مرجعيته إسلامية وآخر يقول أنها يسارية وثالث يقول أنها قومية ورابع يقول شيئا آخر إلى آخر العدد .
أما ما تعارضه هي فلا أقول أغلبية ولا موالاة ولكن أقول أنه ثلاثة أرباع موريتانيا واضعة نفسها تحت الطلب بأطرها على مختلف شهاداتهم وأشياخها على مختلف طرق صوفياتهم وشيوخ قبائلها على مختلف أنسابهم وما بين سطور الجميع من الباحثين عن قوتهم اليومي عن طريق أصواتهم .
هذا الكم الهائل من الموريتانيين سبقت فيه الديمقراطية الفوضوية سنة 92 وأشربت في قلبه وتغذى بمادتها مباشرة حتى بلغ سن الرشد في الحصول على المادة عن طريق ما تقوم به ما يسمى بالأغلبية أو الموالاة من وصال طبيعة الأواخر بالأوائل شبرا بشبر وباعا بباع .
وبنفس مبايعة القبائل للرئيس معاوية التي تتابع عليها كثير من الموريتانيين آنذاك، واعتبار الرئيس معاوية لتلك المبايعة كأساس محول للجميع ما عند الدولة لهذا النوع من المواطنين ونفس الطريق هي التي سلكها هذا الرئيس فاستعملها في ترشيحه للرئيس المدني ولإزالته عن الرئاسة .
فلو كانت المعارضة يمكنها أن تنجح مع وجود هذه الطبيعة الديمقراطية النفعية المادية الراسخة لنجحت بعد اتفاقية دكار حيث أعطيت لها وزارتان سيادتان ووزارة المالية والإعلام والشؤون الإسلامية، ولكن أعطيت لها هذه الوزارات وهي مفصولة عن أصلها وهي السلطة التنفيذية التي بقيت عند الرئيس المترشح بعد رئاسة انقلابه .
ومن هنا أعود لأفصل أسبابا أخرى يجب أن تعذر فيها المعارضة .
فهي كما قلت تتركب من أجزاء لا تجمعها مجرد الوطنية والتعاون على معارضة النظام، بل الجميع يحمل مع ذلك أدلوجيات كلها يخيل إليه أن أيدلوجيته هي الصالحة لقيادة موريتانيا ـ مع أن النظام الذي يتعاملون معه لا يفكر أبدا في هذه الدنيا في الحيثية التي :يمكن التبادل السلمي فيها على السلطة التي أنشأت لها الديمقراطية الجديدة مكانا في دساتيرها تارة تكون فيه المعارضة هي الحاكمة والموالاة هي المعارضة .
فالموالاة في موريتانيا ليست جسما حيا يرزق في موريتانيا يصلح للحل والترحال في السياسة،فهي موالاة دائما لا يعنيها تغير شكل الحكم ولا سيما بالأسماء فقط فإذا تغيرت إلى الضد تغيرت معه لأن السلطة ثابتة عندها ثبوت الآيات التي تصلى بها .
فالإشادة بالإنجازات وإيهام أن موريتانيا هي جنات تجري من تحتها الأنهار في هذا الزمن الحاضر مع هذا القائد بالذات الملهم الشجاع الباني موريتانيا بناءا جديدا لم يسبق له ولا يمكن أن يلتحق به أي أحد هذه الأوصاف جاهزة لأن توصف بها كل سلطة جديدة .
هذا النوع من التربية الديمقراطية التي تديرها سلطة تنفيذية عندها أغلبية بهذا الشكل في البرلمان اليتيم وعنده رئاسة المجلس الأعلى للقضاء في السلطة القضائية وعنده السلطة التنفيذية التي مازالت مستمرة في وصف المثل الموريتاني: اسبع ومدفع .
هذه الصورة الكاشفة عن وضع المعارضة تؤكد أن على من ينتقدها أن يتأمل هذه الصورة السوداوية الثابتة لمقارعتها لهذا النظام .
فإذا قاطعت الانتخابات أو تغيبت عن الحوار أو تأخرت في تعيين ممثليها كل هذا سببه هذه الإكراهات المفروضة والتي لا مفر منها .
فالمتبادر من الانتخابات التي تدعوا لها الدولة المعارضة شكلا لا فائدة من التجاوب معها على أنها مسألة حقيقية يرجى من ورائها تغيير.
فنتيجة الانتخابات معروفة سلفا ، ونتيجة الحوار معروفة سلفا وهكذا ، فالنقد الجزافي للمعارضة قياسا لها على معارضة السنغال أو المغرب أو أي دولة أخرى قياس فاقد لأكثر أركانه .
ومن هنا أعود إلى التركيبة الأيدلوجية للمعارضة لأحمل إنشائها أصلا نوعا من المسؤولية عن هذا الضعف الملازم لها لأن ميلادها قيصريا أضعف نموها بيلوجيا لوجود أيدلوجيات فيها لا تعيش مشتركة مع أدلوجية غيرها لأن أدلوجيتها محددة بسلوك الطريق المستقيم ، ونصوص الطريق المستقيم واضحة في الخارج سهلة لكل من لا يريد إلا هي فلو قام أي شخص بتلوينها أو صياغتها خارج طريقها المستقيم فإن أي شريك له لا يقبل له ذلك لأن سلوكها ـ وهي واضحة ـ هو الذي جمع الشركاء داخلها ولا غيره
فلا فلسفة حكماء الإسلام ولا حكماء أهل الكتاب يهود أو نصارى أو بوذية ولا شطحات المتصوفين وخزعبلاتهم المتركزة على الغيب الخيالي الكاذب،الجميع لا يغير ولا يستر "سنتيما" واحدا من سلوك الطريق المستقيم الواضحة .
ونظرا لهذه الحقيقة فكان على كل أجزاء الأدلوجيات أن ينظروا أولا في مرشح الدولة الذي لم ترشحه إلا بعد أن حاولت بجميع أصوات أبواقها ألا تغير شيئا في الدولة على الأقل في التاريخ المنظور وحتى الأسماء والجسم والبذلة الجميع يجب أن يترك كما هو لأن الحياة لا يمكن استمرارها دونه ، ومادام وقع تغيير أو تفكير فقط في التغيير فعلى أهل الأدلوجيات أن يختبروا وضع مكان للبناتهم في جسمه يمكن سقيها من الصف الأمامي وتكون الموالاة هي المجرورة وهذا سوف يكون سهلا إذا كان المرشح جاء من عند نفسه فمؤهلاته الأخرى واضح فيها ذلك .
فإذا كانت هناك أدلوجيات لا تجد في نصوصها ولا فلسفتها أو أفكارها أو نظامها أو بصفة عامة لا تخاف عقبى مخالفة أدلوجيتها ، فإن هناك أدلوجية يعرفها الجميع مؤسسة على نصوص لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها تنزيل من حكيم حميد ، ولا يمثلها أي أحد إلا بالوكالة وبتلك النصوص، وتلك النصوص لا تعرف زيدا من عمر وإنما يقال لها : ((اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء فليلا ما تذكرون)) وأولياء هنا نكرة لا أولياء معارضة ولا أولياء موالاة ولا أولياء باصطلاح أهل الدنيا المنحرفين بالتسمية عن أولياء الله المذكورين في القرآن مع وصفهم العملي الثابت معهم دائما .
إن تلك الأدلوجية اجتماعها مع غيرها يجعلها أولا : خارجة عن بناء أساسها الأصلي الذي ينهاها عن الاشتراك مع الغير في أي عمل خارج ما تدل عليه تلك النصوص كما في الحديث الرباني:"من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه "
وبما أن جميع الموريتانيين مسلمين فيجب على تلك الأدلوجية أن تأخذ جميع موازين الشرع المبثوثة في نصوصه والتي تحدد القيادة التي تجب مبايعتها ، فإذا توفرت فيتعين العمل بمقتضى ذلك ولا خيار، وإذا توفر أغلبها أو غلب على الظن أنه يمكن توفره فتـتعين كذلك،وإلا فإن أي بديل آخر ينبغي عرضه على تلك الموازين فمن ثقلت موازينه عن الآخر بوزن حبة مثقال خردل فيجب اتباعه لذلك وإلا فإن الوقوف بين هذين أسلم .
وعلى كل حال فملخص هذا المقال :
أولا : إن كل منتقد للمعارضة في ظل حكم العسكريين "الديمقراطي" فهو ظالم لها، وأظلم المنتقدين من يقيسهم على ديمقراطية العالم التي تشمل نصوص ديمقراطيتها على ما تقوم به المعارضة من نشاط وينفذ حسب تلك النصوص، أما معارضة نظام لا يفكر مسؤوله الأول في إحداث أي شيء ولا حذفه إلا كان أمامه يساوي صدور مرسوم من صلاحيته:فمعارضة هذا النوع هي من الفضول بمكان ، فلو كانت المعارضة أو الشعب الموريتاني كله يدرك أن عنده دستور يجب احترام نصوصه لكان الاعتماد على المادة38 من الدستور في تغييره تكفي لإلغاء كل ما سببه الديمقراطية والرجوع إلى حياتنا في ما قبل الاستقلال .
فتفسير تلك المادة على أنها تجوز الاستفتاء على التغيير وهي بجانبها باب عنوانه كبير الباب الحادي عشر حول مراجعة الدستور فلو كان المشرع المقنن للدستور مجنونا فلا يمكن أن يحول جنونه دون أن يشير إلى هذه المادة لو كان لها علاقة بمراجعة الدستور .
فمقاطعة الانتخابات والغياب عن الحوار وكل تصرف لا ينتج الغياب عنه التفريط في نتيجة حتى ولو كانت مظنونة لا ينتقد على القائم به كما قال الشاعر الموريتاني :
ومن يأت الأمور على اضطــــرار ** فـــــليس كمثل آتيها اختيــارا
ثانيا : المعروف أن الأدلوجيات السياسة أو القومية على مختلف أنواعها لا يوجد في نصوصها ما يدل على وجود أن هناك فيما بعد: آخرة فيها جنة ونار وميزان عدل يحاسب فيها على الفتيل والقطمير في التفكير في أي شيء ولكن عدم وجوده في النصوص السفلى لا يمنعه من الوجود في النصوص العليا بل فيها عن يقين .
أما الأدلوجية التي تعلم بذلك قطعا لأنه مذكور في نصوصها فهي في المعارضة لا تمثل الأدلوجية ولا المتعاونين معها في ترقيتها وترسيخها والعمل طبقا لنصوصها إلا وكالة فقط والوكيل معزول تلقائيا عن غير المصلحة وإنما يمثلها سلوك الطريق المستقيم الذي تدور استقامته مع مصلحة ما تدل عليه النصوص حيث دارت .
أما غير ذلك فهو افتيات وسلوك لسبل بالجمع غير المفرد والله يقول : (( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ))