في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات، من القرن الماضي، كانت وسائل وتقنيات الإعلام بطيئة بدائية ومحدودة الانتشار، وفي ذلك الواقع المعتم، استفرد الطغاة من جلاوزة الانقلابات العسكرية العربية المتلاحقة، بشعوب البلدان التي نكبت بهم، فاستخفوها، على سنة الفراعنة، فأطاعتهم، آيةً على أن الشعوب هي من تصنع طغاتها؛ وفي مغبة التعتيم وغيبة الشهود المحايدين، ارتكب طغاة العرب في القرن العشرين أفظع المجازر في حق الصالحين من شعوبهم، فأقاموا المشانق والمقاصل، ولفقوا التهم، وأقاموا المحاكم الصورية للأبرياء؛
وبواسطة ما طالته أيديهم في تلك الفترة، من أبواق دعائية فجة غبية ومضللة، روج طغاتنا الأكاذيب والافتراءات، وملأوا الأسماع صراخا بشعارات الزيف والإرجاف والوعد والوعيد، لشعوب بلدانهم وجيرانهم؛ ثم ما لبثوا، كل فيما يخصه، أن ساقوا الشعوب بالحديد والنار، عبر الدماء والأشلاء والحطام والدموع، إلى نكساتهم وإخفاقاتهم وخيباتهم التي استنزفت موارد الأمة، ودمرت مقوماتها، قبل أن يرتهنوها للصهاينة وحماتهم في الشرق والغرب، لتكون النتيجة الكارثية لتلك المقدمات مجتمعة، هذا الواقع العربي المريض، والعصي على العلاج!.
كان من سوء حظ أولئك الطغاة، ومن ظاهرهم على باطلهم، طوعا أو كرها، بل وكل من أذاقوه مذلة العيش على فتات موائدهم وسرقاتهم وغلولهم؛ كان من سوء حظ الجميع إذن، أن انفجرت ثورة الإعلام وطفرته وفتوحاته غير المسبوقة، على غير موعد معهم، فتمكنت الأضواء الكاشفة من اختراق مختلف الحجب والستائر والأقبية والدهاليز والأنفاق والمواخير والسجون والمعتقلات، وفضح كل المنكرات والممارسات الممنوعة، وما أخفي المجرمون من قاذورات الأقوال والأفعال، وجرائم وكبائر الأعمال؛
في أضواء الطفرة الإعلامية الفاضحة، أبواقها وشاشاتها ومواقعها، وعلى ألسنة المقربين من دوائر القرار، انتثرت الفضائح، فملأت السهل والجبل، وفاحت الروائح الكريهة لمختلف صفقات الخيانة، تحت الطاولة وفوقها، ونشرت قوائم لآلاف الضحايا الأبرياء، وآلاف المعذبين بسبب آرائهم، وتم كشف مئات القبور الفردية والجماعية؛ ولقد كانت تلك السوءات والعورات الفاضحة، ذريعة كافية لانفجار ثورات الربيع العربي، على الواقع المهين الذي فرضه الطغاة الجفاة، لعقود متتالية، قبل أن تقذف الشعوب بهم وبتراثهم الكريه، خارج التاريخ، تطاردهم اللعنات والخيبات.
كان في مقدمة موكب الأضواء الكاشفة التي هتكت حجب الطغاة، وصنعت الطفرة، وحققت المعجزة، قناة الجزيرة الفضائية القطرية، والتي مثلت-في نظرنا-أعظم إنجاز حضاري عربي في العصر الحديث؛ وهي لم تكن الوحيدة، لكنها كانت الفريدة بخط تحريرها الواضح، وبطواقمها المتميزة، وبأهدافها وغاياتها المتمثلة في الكشف عن الحقيقة حيثما كانت، وركوب كل صعب وذلول، وبذل الغالي والنفيس، والمنافسة على الأفضل والأجدر، والاستعداد لتحمل الكلفة الباهظة لذلك، حتى في أرواح وحريات فرسانها من كتائب الميكروفون والكاميرا؛
مهد الإعلام الحر لثورات الربيع العربي، ثم واكبها وصاحبها في مختلف أطوارها، ففتح الله به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وبدا أن الشعوب العربية تقترب من تحقيق حلم التحرر؛ لكن مكر الدوائر الصهيونية الصليبية، وعمالة الأنظمة العربية المتسلطة في المنطقة، وانتفاخ جيوب وأوداج مشغلي مرتزقة بلاك ووتر وأخواتها، وشلال المال الخليجي الغزير المتدفق، وصفقات السلاح، وأساطيل الشرق والغرب في كل الممرات المائية المحيطة بالمنطقة، كل أولئك ساءتهم وأرعبتهم المآلات المرتقبة للربيع؛
ما أرعب دوائر "الثورة المضادة" في الواقع كان التفافَ الشعوب العربية الكاسح حول المشروع الإسلامي، وصدودها عن مسارات وتجارب التيه الطويل في مجاهل الفكر الغربي والنظم الغبية؛ وهكذا كان قرار تلك الدوائر مجتمعة، هو التحكم في مآلات الموجة الأولى من الثورات، مهما كان الثمن، ثم تم هذا التحكم بإعادة إنتاج الطغيان في معظم بلدان الربيع، بتسليط سفاحين من الطابور الخفي، تنجذب إليهم العناوين المشبوهة، ثم يقدمون كورثة جدد لعرابي القومية العربية، في الأنظمة العسكرية الدابرة.
كل ذلك بات حلقات من ماض قريب، ومعروف بفضل فتوح الإعلام، وما يرتقب ويهم الناس يمتد إلى أفق الغد وما بعد الغد، لكن الطفرة الإعلامية تبقى بالمرصاد، لكل محاولات منح المشهد العربي، وخصوصا في بلدان ثورات الربيع، عناوين مضللة تصنع في أقبية التدليس؛ فبفضل الطفرة الإعلامية تعرف الكل على تفاصيل المشهد، وعلى أطرافه الفاعلة، والأجندات المختلفة المعدة له؛ وهكذا لن تفلح الحملات المضللة لصرف النظر عن الحقائق، بعد أن تميز الرشد من الغي في مجال الحكم على الظاهرة وعواملها ودوافعها ومآلاتها.
وبفضل الطفرة الإعلامية وفتوحها، رصد المتابعون بعض الآثار الغريبة لغلواء "الثورة المضادة"، لدى بعض النخب القومية العربية، خاصة، ونستعرض من ذلك مفارقتين صارختين، بشأن تغيرات دراماتيكية في القناعات والخيارات، في صفوف أنصار عودة الطغيان؛ وتتعلق إحدى المفارقتين، بخوف القوميين العرب المألوف، على الشعوب العربية، من ملوكها وأمرائها وحكامها الرجعيين، وقد انقلب بعد الربيع العربي، خوفا على أولئك الملوك والأمراء والحكام الرجعيين، من شعوبهم!
أما المفارقة الثانية فتقرأ من صدور دعوة علية من قيادات قومية بارزة، إلى شعوب الأمة، لكي ترك كل قطر عربي وشأنه، وتكف عن متابعة ما يجري خارج حدود بلده الموروثة عن الاستعمار؛ وتلك فيما نعلم مجافاة كاملة للأسس "الفلسفية" للقومية !! ... طبعا !.. لقد بات الولاء اليوم للطغاة العرب المتحكمين، لا للشعوب العربية، فليستفرد كل طاغية بالشعب الذي يحكمه، وليذلّ أهله، وليبددْ ثروته، وليدسْ كرامته، وليدمرْ حضارته، وليمحُ ماضيَه، وليتحكمْ في مستقبله.