سفارة الأرز في إفريقيا الغربية (3)
بكائية في تأبين فارسي المهجر سعيد فخري وأحمد مخدر
مواقف لا تنسى أبدا
... وبدأت حركة القوميين العرب التي لا يربطها بالمركز إلا مجلة الحرية، تنشط في موريتانيا في النصف الأخير من سنة 1963. وكان من بواكير نشاطها رسالة مفتوحة موجهة إلى الرؤساء جمال عبد الناصر وأحمد بن بله وعبد الله السلال نشرت في صحيفة الثورة والعمل الجزائرية تستصرخهم لنجدة موريتانيا والاعتراف بها وفك الحصار عنها؛ وقد جسدت الصحيفة الناطقة باسم اتحاد العمال الجزائريين ويديرها الكاتب الجزائري اليساري العفيف الأخضر مضمون تلك الصرخة بكاريكاتير بديع ومعبر: صبية في قعر بئر يشمر الرؤساء الثلاثة عن سواعدهم لإنقاذها! ولعل تلك الصرخة هي سبب استجابة الجمهورية العربية المتحدة (مصر) الفورية وإرسالها وفدا رفيع المستوى ومتعدد الاختصاصات إلى موريتانيا بقيادة الدكتور النبوي المهندس ويضم من بين جهابذته شيخ الأزهر الشريف الشيخ محمود شلتوت، واعترافها العاجل بموريتانيا، وما واكب ذلك من دعم سياسي وثقافي كان المركز الثقافي العربي والمساعدة الفنية في مجال التعليم والبعثات الدراسية إلى مصر من أطيب ثماره وأينعها. ثم ما قمنا به يومئذ من نشر للوعي القومي والوطني عبر توزيع وإذاعة كنز من الأناشيد الوطنية والأغاني العربية تزودنا به من إذاعة الجزائر أثناء مشاركتنا في الاحتفال بعيد الثورة، وعبر بث الشعر القومي والوطني، وكذلك تنظيم أول مظاهرة شبابية لنصرة فلسطين في 15 مايو سنة 1964، كما أصدرنا مجلة "موريتانيا الفتاة" التي كانت توزع في جل المراكز الحضرية؛ ثم فجرنا كذلك ثورة التعريب والاستقلال وما واكبها من معارك وطنية وقودها نقابة المعلمين العرب وعمال ميفرما والتلاميذ وبعض الأساتذة في انواكشوط وأطار، والطلاب في الخارج.
وقد شكلت أحداث 9 فبراير 1966 المؤلمة التي اتخذت طابعا عنصريا مقيتا مؤامرة على سلمية وطبيعة ثورة التعريب والاستقلال دبرتها قوى سياسية من داخل النظام بهدف إجهاض النضال القومي الوطني السلمي واستثماره في انقلاب رجعي مبيت، وحرفه عن هدفه الحقيقي؛ وهو تحقيق الاستقلال وإعادة الاعتبار للغة العربية التي هي لغة الأغلبية ولغة دين جميع الشعب وجعلها اللغة الرسمية للدولة بدل اللغة الفرنسية التي هي لغة المستعمر.
* هزيمة حزيران المدمرة
وفي خضم هذا النضال القومي التحرري الذي بدأ في آخر سنة 1967 يأخذ طابعا وطنيا ديمقراطيا وحدويا مناهضا لمختلف أشكال الاستعمار الجديد والرجعية والعنصرية؛ خاصة بعد الحوارات المتعددة التي جرت بين قادة الحراك القومي العربي الوطني ومجموعة الـ19 التي أريد لها الصدام معهم وأن تقف في وجه التيار التحرري حارسة لثقافة ولغة المستعمر. وقد ساهم في نجاح التقاء الطرفين ثلاثة أمور هي: تضامننا معهم وإعلاننا الإضراب مساندة لإضرابهم في واحة بو امديد النائية عندما كنا منفيين فيها. اختلاطنا في معتقل واحد بعد عودتنا إلى انواكشوط، هو مدرسة الشرطة بلكصر؛ فرب ضارة نافعة. اللقاء التاريخي بيننا وبين النقابي الوطني الكبير المرحوم جابيرا جاگيلي واتفاقنا على العمل معا ضد سيطرة حزب الشعب الحاكم على اتحاد العمال الموريتانيين.. وكانت تلك خطوة أولى رائدة وموفقة في طريق لم الشمل الوطني وتوحيد الجبهة النقابية الوطنية المناوئة للاستعمار والرجعية في موريتانيا!
في خضم هذا النضال المشرق الواعد كما أسلفت، نزلت بساحتنا كارثة هزيمة حزيران، التي قصمت ظهر الثورة العربية والعالمية معا، ورمتنا أسفل سافلين.
ولكن الشعوب الأصيلة لا تهزم. وخصوصا شعب العرب! فسرعان ما تحدى العرب الهزيمة رغم هولها، وأظهروا أنهم أقوى من الهزائم، وانتفضوا في كل مكان، وزحفت الجماهير في القاهرة وبيروت وكافة عواصم وأرجاء الوطن العربي رافضة الهزيمة ومنادية بالمقاومة والصمود سبيلا لاسترجاع الحق والكرامة ومتمسكة بحزم بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر! وفي موريتانيا - النائية جدا آنذاك- حاصرت الجماهير الغاضبة سفارة أمريكا إلى أن أجْلَتها وقطعت موريتانيا علاقاتها الدبلوماسية مع أمريكا وبريطانيا، وانطلقت حملة تطوع لدعم المجهود الحربي العربي آتت أكلا فاق المتوقع؛ وحدت بلادنا - بقيادة الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله- إفريقيا التي زارها قطرا قطرا، حتى قطعت جميعا علاقاتها مع إسرائيل! ولم تكن سفارة الأرز في إفريقيا الغربية، ومجلة الحرية اللبنانية من ذلك كله ببعيد!
فمَن من شباب ثورة جلي الهوية وتحقيق الاستقلال في موريتانيا لا يتذكر الصفحة الأولى من عدد الحرية الصادر بعد الهزيمة واستقالة الرئيس جمال عبد الناصر، التي تحمل صورة الزحف الجماهيري الكبير وعبارة "لا لم يخطئ عبد الناصر ولم يهزم العرب" مكتوبة بخط عريض! وفي العدد مقالات تحليلية وتوجيهية لكتاب الحرية الأساسيين: محسن إبراهيم، ومحمد كشلي، وبلال الحسن.. وغيرهم، تدعو إلى الصمود والتحدي والثورة والقتال في سبيل الحق ودحر العدوان! وانطلق نفير شباب المهجر يحدو الثورة والمقاومة ويبذل الغالي والنفيس بما في ذلك أرواحهم؛ فكانت الإرهاصات الأولى لاندلاع المقاومة وحرب الاستنزاف، والسماد الذي أخصب وغذى المقاومة الإسلامية الظافرة في بلاد الأرز ودعم صمود الشام!
نعم لم يخطئ عبد الناصر عندما فهم طبيعة أبدية الصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني الاستيطاني الاستعماري فقرر أن لا سلام مع إسرائيل، والذي نظم وقاد بنجاح حرب الاستنزاف، وبنى جيش مصر البطل الذي دك حصون بارليف وحقق نصر أكتوبر العظيم قبل أن تثخنه رماح الاستسلام وتكبله قيود كامب ديفد الملعونة! ولم يهزم العرب الذين صمدوا - وما يزالون صامدين حتى اليوم- في وجه أمريكا وأوروبا وإسرائيل! وسوف ينتصرون حتما، مهما كان الثمن وطال الزمن!
يتبع