في سنة 2012 ظهر كتاب " لماذا تفشل الأمم ؟ أصول السلطة والازدهار والفقر" وهو من تأليف الأستاذين د. أسيموغلو وج. روبنسون ، ومن المؤكد أنه لم يحظ أي كتاب في السنوات الست الأخيرة بمستوى الاهتمام والشهرة الذي حظي به هذا الكتاب، وقد ترجم إلى كثير من لغات العالم، ومن ضمنها العربية والفرنسية ، فضلا عن العديد من المراجعات والقراءات المنشورة له.
وما يهمنا بشأنه في ظروفنا اليوم، هو ما سماه المؤلفان "مؤسسات الاستحواذ" حيث تقوم النخبة الحاكمة باستخراج فرد محدد من دائرتها الخاصة ليتولى مهمة احتكار السلطة، وبالتالي ضرب مناخ التنافس الحر، مما يقود إلى الجمود، ليس فقط على المستوى السياسي بل على مستوى الاقتصاد، والعلم ، والابتكار..
وربما لا يحتاج المرء لأن يكون فهامة ليدرك أنما يقصده هذا الكتاب "بمؤسسات الاستحواذ" هو نفسه ما يتم نسجه (على أصوله ) اليوم في موريتانيا،وربما دون وعي من المهتمين المتحسسين لمخاطر المستقبل، ذلك أنما يبدو في الظاهر مكسبا هو بعينه مقدمة لتشريع "الاستحواذ" .. فحين يكتسب الحاكم من فترة حكمه ما يشبه العصمة التي تمكنه من أن يحسم أمر الحكم ببساطة بفرقعة من أصبعه، وأن ينوب عن مؤسسات الديمقراطية وعن الشعب في اختيار الحاكم المقبل، فهذا هو أكبر مؤشر على هشاشة الديمقراطية، واضمحلال مؤسساتها ، وعلى الإبحار بالمجتمع نحو المجهول ..
وفي ستينات القرن الماضي هاجم الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران شارل ديجول، وحذر من أنه أصبح أقوى من المؤسسات الديمقراطية وميالا لتجاوزها .. وقد تعرض ميتران لما تعرض له من إقصاء في تلك الفترة بسبب آرائه التي سطرها في كتاب "الانقلاب الدائم".. غير أن ثمرة الدفاع عن المؤسسات الفرنسية كانت كبيرة وعظيمة الفائدة، فقد أجهضت سياسات الاستحواذ، وتمكن الاشتراكيون من فرض التداول الحقيقي بين المناهج وليس التبادل الشكلي بين الأشخاص .
والواقع أن كتاب "لماذا تفشل الأمم ؟" لا يركز كثيرا على التقدم العلمي أو التكنولوجي ولا حتى على الموقع الجغرافي في تفسير النمو، كما هو الشائع عند أغلب الاقتصاديين اليوم، وهذه من ميزاته اللافتة ، بل على ما سماه المؤلفان النظم الإدماجية التي هي النقيض الفعلي للمؤسسات الاستحواذية .. لماذا مثلا – يقول المؤلفان- يرتفع الدخل ومعدلات النمو في الجزء الأمريكي من مدينة نوغاليس (وهي مدينة حدودية بين أمريكا والمكسيك)، بينما ينتشر الفقر والتخلف في نصفها المكسيكي ؟ مع أن طبيعة الأرض والمناخ واحدة ، وأصول السكان وخلفياتهم الثقافية واحدة ؟ الجواب : أن المؤسسات السياسية في أمريكيا هي مؤسسات إدماجية، بينما في المكسيك هي مؤسسات ذات خلفية استحواذية .
ثم ، "لماذا عندما ننظر إلى الجزيرة الكورية في الليل نرى الأضواء الكثيرة في الجانب الجنوبي، أما في الجانب الشمالي فلا نرى تقريبا أي ضوء باستثناء ضوء وحيد ربما هو منبعث من قصر الرئاسة ؟ مع أن طبيعة الأرض هناك أيضا واحدة.. وكذلك أصول السكان وثقافتهم ."
وأخيرا .. لماذا الأثرياء في المكسيك مثل كارلوس سليم وغيره هم ملاك شركات اخطبوطية احتكارية بينما الأثرياء في أمريكا مثل بيل غيت، و(جيف بيزوس) هم مبتكرون مبدعون خلقتهم الموهبة والمنافسة الحرة ؟
صحيح أننا في هذا البلد البسيط الذي يتلمس طريقه بحذر(موريتانيا) حين ننعم بالتداول ونخرج من مرحلة الدكتاتورية أو الاستبداد الفردي المطلق ، فإن هذا في حد ذاته أمر مهم، غير أن الواقع، يؤكد على أن الخروج من الاستبداد الفردي لا يعني الدخول في الديمقراطية، ولا يعني النجاة ، بل إن هناك صحراء قاحلة بين الحكم الفردي المطلق وبين الديمقراطية، قد تطول وقد تقصر، وقد ترجع المرء أحيانا الى البداية ، وفي الغالب لا تكون خالية من المتاعب.
وتوصف الأنظمة التي خرجت من الدكتاتورية ولم تصبح ديموقراطية حقيقية، أي انها ليست دكتاتورية كاملة وليست أيضا ديمقراطية كاملة توصف ب Anocracy أي الانوقراطية أو اللاديمقراطية قياسا لفظيا على Anarchy بمعنى اللاحكم ،أو اللاسلطة..وهي في الواقع أكثر انماط الحكم هشاشة وأقلها تماسكا بل إنها في الغالب أكثر عرضة للمشاكل من الدكتاتوريات الكاملة ، وكما يقال فإن أكثر الأخطاء تقع في الوسط ، كذلك فإن اكثر القلاقل في العصر اليوم تقع في الأنظمة الأنوقراطية ، فهي أكثر عرضة للاضطرابات من الدكتاتوريات المطلقة بنسبة الضعفين وبنسبة عشرة أضعاف من الديمقراطيات الراسخة .. ومن أمثلة الأنظمة الأنوقراطية اليوم النظام في نيجيريا وأوغندا والعراق ، مع أن هناك تجارب انتقلت فيها دول من الأنوقراطية إلى ديمقراطية حقيقية مثل تايوان، وأحيانا يقع العكس فترتد دول من الديمقراطية نحو الأنوقراطية مثل ما يفترض أنه حاصل في تركيا الآن ..وتكون الأنوقراطية إما مغلقة مثل الجزائر وروسيا ورواندا أو مفتوحة مثل تايلاند وغيرها.
وإذن فإنما نشاهده اليوم يبعث على القلق أكثر مما يبعث على الارتياح، ومصدر القلق ليس في شكل النظام بل في مؤسسات الاستحواذ المعيقة للتنافس الحر،المحتكرة للمكاسب، ذلك أننا ندرك، أن هناك في هذا البلد تراثا متأصلا من الإقصاء، وعدم الاكتراث بسياسات الإدماج ، تقابلها عقلية استحواذ فطرية مترسخة لدى كل الأحكام المتعاقبة، وهو أمر لا تستب معه الأوضاع في النظم الانوقراطية تحديدا.
لقد استعاضت الصين عن الديمقراطية بسياسات الإدماج بدل الاستحواذ عكسا للاتحاد السوفياتي، بالرغم من تشابههما في نظام الحزب الواحد، وهو ما يفسر جزءا كبيرا من حالة الإستقرار والرفاه الذي أصبح هذا البلد ينعم به، وفي العادة كما قال مؤلفا الكتاب فإن الشعوب لا تثور بسبب ارتفاع الوعي فقط، ولا تخضع بسبب الخوف أيضا، بل إنها هناك حسابات في عقلها الجمعي تحدد لها متى تتحرك بحزم نحو التغيير .. وقد حاول الكتاب دراسة الثورات ودوافعها من خلال تحويلها إلى ما يشبه المعادلة الرياضية كما هي في حسابات العقل الجمعي للشعوب ، إذ عندما يكون ( منسوب الاستحواذ - الإدماج + تكلفة الثورة) مرتفعا تكون احتمالات الثورة قائمة ، و بالعكس عندما يكون (منسوب الإدماج + تكلفة الثورة - منسوب الاستحواذ) مرتفعا تكون احتمالات الثورة أقل ، فالصينيون مثلا، ومعهم شعوب أخرى مختلفة يدركون فطريا أن : تكلفة الثورة مضافا إليه خسارة المكاسب القائمة مرتفع مقابل ضبابية وقلة النتائج المتوخاة من الثورة ، والواقع أن الحكومة الصينية القائمة باشتغالها على توسيع دائرة الإدماج ، إنما تتحرك وفق ضوابط دقيقة لتوجيه المعادلة وضبط حركتها برفع منسوب المكاسب القائمة فعلا، مقابل غموض النتائج المتوخاة افتراضا .. وقد أضاف المؤلفان على معادلة الثورة عاملا متحولا هو التعويض أي زيادة المكاسب بالتعويض بكل طرقه و أشكاله، والتي من بينها الهجرة، وهو متغير مهم في معادلة الثورة.
والخلاصة أن الاستقرار لا يتحقق في نظم الاستحواذ إلا يسيرا ،وقد تبين من دراسات معتبرة أنه من بين كل نظامين أنوقراطيين اليوم فإن واحدا لا يخلو من اضطرابات ،إما مزمنة، وإما متقطعة.