لقد أصبحنا في أمس الحاجة الى ثورة في تصحيح مفاهيم و طُرق بناء الميزانية العامة و تحديث هياكلها على أُسسٍ علمية حديثة و سليمة و أكثر شفافية بما يضمن نُهوضا حقيقيا و تنمية مستدامة في الدولة
إن الإصلاح لا يعني انتخاباتٍ نيابية أو تحصينات دستورية و لا يُقصد به تغيير ساكنِ القصر الرئاسي كل عقد من الزمن في ظل غياب الشفافية و المساءلة والرقابة و عدم توجيه أدوات الموازنة لما يخدم مصالح الناس و متطلبات العصر و إكراهاتِ الظروف و تجاوز برمجة الْمُباشرينَ للمهام و التسيير
لقد إنعكس - في السنوات الأخيرة - الطلاق البيِّنُ بَين البرنامج الحكومي الذي تنال الحكومة على إثره ثقة نواب الأمة و بين بناء ميزانية الدولة التي لا تُراعي و لا تخدم أولويات السياسة العامة و التي تتعهد بها الحكومة بداية كل سنة تشريعية على لسان الوزير الأول فلقد إعتدنا منذ سنوات أن تكون الفجوة كبيرة بين التصريح الحكومي و مخصصات القطاعات ذات الأولوية في سياسة الدولة بما يطرح أكثر من تساؤل حول الخطوات المتبعة في بناء الموازنة العامة و مدى انسجامها مع توجهات أصحاب القرار السیاسـي المسـؤولين أصلا عــن طرح الميزانية و تحدید أهــدافها
لقد اعتادت وزارة المالية أن تقرأ الكتاب مقلوبا فرغم أن القطاعات الحكومية تقوم بدراسة إحتياجاتها و تُعبّر عن الخصاص و تحدد الأولويات في مراحل متقدمة قبل وضع الميزانية العامة الا أن وزارة المالية عندنا لا تهتم بهذا الإجراء و لا تأخذه على محْملِ الإستئناسْ بل تتكفل وفق إعتبارات خاصة بها الى تحديد ميزانيات فرعية لكل قطاع غالبا ما تكون مُخصصاتٍ هزيلة لا تُساهم في تخليق المرفق العمومي و لا في جودة الخدمات المُقدمة و رغم كل هذا وذاك يصطدم التصرف فيها بعائق أزلي إسمه رشاد !!
نظام رشاد نظام معلوماتي مُحاسبي
التحكم فيه مُمركز هو الآخر عند إدارة المعلوماتية في الادارة العامة للميزانية و الحسابات و يلعبُ دور الْفَرامل لكل القطاعات الحكومية بحيث لا يتمكن أي قطاع من تسيير مهامه الا بتأشيرة من هذه الإدارة التي أصبحت فعليا تلعب دور الوزارة الأولى
الميزانية العامة عندنا تتكون من ستة أجزاء جزؤها الأول خاص بكتلة الرواتب و الأجور و لا يُسمح التصرف فيه لأي قطاع لأن ذلك تَركَتْه وزارة المالية تحت رقابتها نازعة ثقة التصرف من باقي الوزارات رغم أنها - أي هذه الوزارات - هي الجهة المسؤولة عن تعليق أجور موظفيها أو حجزها أو رفع اليد عنها
الجزء الثالث و الخامس في الميزانية متعلق بالنُّظم الخاصة ( الجيش و الشرطة و الصناديق .... ) و الجزء الرابع الخاص بالتحويلات يعتبر ضيفا في سجلات كل القطاعات لأنها فقط وصية عليه و لا تتصرف فيه
إذاً فعليا يبقى من أجزاء الميزانية المسموح بالحديث عن التصرف من خلاله هو الجزء الثاني المتعلق بالسلع و الخدمات و الجزء السادس المتعلق بالإستثمار كل هذه الأبواب يمكن إعتبارها مُصابة بالقرصنة نتيجة النظام المُحاسباتي الذي يجعل تصرف المُسير مرهون بإجراءات و قرارات المسؤول الفعلي في رشاد المُهيْمَن عليه أصلا من طرف إدارات وزارات المالية مما سبب خللا جوهريا في التسيير بحيث يمكن لوزارة أن تُبرمج نفقة معينة بتوافق مع القائمين على النظام لكنها في مراحل متأخرة تجد نفسها غير قادرة على الوفاء بإلتزاماتها مع الموردين لأنها لا تتحكم في فتح البرنامج و لا في توقيت إغلاقه
هذا التفرد و احتكار البرمجة و الإنفاق و عدم التنسيق بين البرنامج الحكومي و بناء ميزانية الدولة جعل هذه النفقات غير موجهة وفق إستيراتيجية تسـاعد في بنـاء القاعـدة الاقتصـادیة بل إنه أَقرَّها ميزانية مُوجهة للإنفاق الإستهلاكي
لقد أصبح الكشف الفعلي عن واقع النمو الإقتصادي أولوية حتمية لا يمكن التغافل عنها و لا تأجيل اتخاذ قرار بشأنها إضافة الى تقويم الدور التنموي للميزانية العامة طيلة السنوات الأخيرة في تحقيق التنمية المستدامة بعد أن ابتعدتْ عن تحقيق أهدافها
فليستْ البقرة الأقوى خواراً هي بالضرورة البقرة الأكثر مدراراً