رسائل الشارع من يقرأها ؟ / أحمدو ولد الوديعة

ليس غريبا أن تكون هناك فوارق ومسافات ما  بين النخب وعموم الناس في فهمهم للأشياء، وخاصة للشأن العام الذى يفترض أن النخب أكثر إلماما بمختلف مظاهره وأملك لأدوات تحليله وتجاوز الظاهر  منه إلى المضمر والمنطوق إلى المفهوم والمكتوب إلى المسكوت عنه أو المطوي بين السطور، لكن ما هو غير طبيعي أن تتحول 

تلك الفوارق والمسافات إلى هوة وأن يكون المتقدم في الفهم والاستيعاب هو عموم الناس فيما النخب متأخرة  بل عاجزة حتى  عن فهم الرسائل التي تأتيها الواحدة  تلو الأخرى من الجمهور المفترض أن يكون المؤثر الرئيس في صنع توجهاتها وتحديد مساراتها.

 هذه الحالة الأخيرة المقلقة هي ما يبدو أن عليه  حال نخبنا السياسية بصفة عامة وخاصة منها من يفترض أن تكون طليعة في الوعي والتضحية وإعلاء الصالح العام أعني بكل وضوح القوى الساعية للتغيير والرافضة لاستمرار الحال على ما هو عليه منذ أكثر من أربع وثلاثين سنة من حكم العسكر سيئ الأثر والصيت والسريرة، فالواضح أن هذه القوى التي دخلت في ديناميكية الرحيل منذ 12 مارس 2012 تواجه مشكلات صعبة في  قراءة رسائل الدعم القوية  التي تصلها بتواتر رغم كل الأخطاء والمؤشرات غير المشجعة على ما تعانيه من عسر في الفهم، وقصور في التحليل وارتباك في الأداء.

  لقد التف الشارع الموريتاني بشكل غير مسبوق حول خطاب القوى الداعية للرحيل منذ الثاني عشر من مارس فشهدت نواكشوط أكبر مسيرة في تاريخها بشهادة  مراقبين، وكانت تلك رسالة واضحة أن  ذلك المطلب لامس هوى في شغاف قلوب عشرات الآلاف من المورتانيين الواقعين منذ عقود تحت تأثير سلسلة من الأحكام المتسلطة التي لاتقيم وزنا لقيمهم ولا ولوحدتهم ولا لحرياتهم، فخرجت تلك الجموع وهي تهتف بكل اللغات الوطنية برحيل النظام وبسقوط حكم العسكر، وهو ما كان يفترض أن يفهم  من المعنيين فيكون دافعا إلى نمط جديد من الأداء السياسي قادر على تحقيق الشعار المرفوع لكن يبدو أن الرسالة لم تقرأ بما فيه الكفاية   رغم أن الأنشطة التالية اعطت انطباعا أن الأمور ربما تسير في اتجاه قراءة صحيحة لرسائل الشارع.

 جاءت الاعتصامات التالية والطريقة الغامضة التي انهي بها الأخير منها لتؤشر على الحقيقة المؤسفة وهي أن النخب التي تعلق عليها الآمال في قيادة التغيير المنشود تعاني صعوبات حقيقية في الخروج من أنماطها الرتيبة في الفعل السياسي، وتعاني  بالتالي من مشكلات جوهرية في قيادة  جموع استوعبت تجارب الثورة والتحرر التي عاشتها بلدان من حولنا جنوبا وشمالا  استطاعت خلال العام الفائت أن تصفي الحساب مع جيل من الطغاة  والمستبدين بدأ مع بن علي واستمر مع اغباغبو ومبارك والقذافي وعبدالله واد.

  لقد سببت الطريقة التي تم بها فض اعتصام التاسع من مايو حالة من الصدمة الشديدة للقوى التي قرأت رسالة الرحيل على أنها بداية  تحول في ذهنية قيادات العمل السياسي الحزبي حيث تبين أن ذلك التحول هش وأن تحول المتعودين على أنماط من العمل السياسي " الواطئ" إلى عمل احتجاجي قوي يفتك مساحات من الحرية ويفرض تغييرا من خارج دائرة التوقع التقليدي هو أمر  صعب التحقق في ظرف وجيز.

 وخلال الأسابيع التي تلت صدمة فض الاعتصام ورغم ما  طبع أنشطة المعارضة من ارتباك وتراجع ظل الشارع متمسكا بأمله في التغيير فكانت المشاركة الواسعة في  مهرجانات ومسيرات الأيام الأخيرة التي نظمها " تواصل" والمنسقية رغم مشاغل نهاية العام الدراسي، وموسم الكرة الأوربية دليلا على أن الشارع  لم يشأ بعد محاسبة قوى التغيير على ترددها فما زال يمنحها الثقة ويراهن على إمكانية أن يخرج من ليل ترددها ورتابتها وتقليديتها فجر تغيير مختلف عن التغييرات الكاذبة التي تمخضت عنا احتجاجات رتيبة عرفتها موريتانيا في العقود الماضية.

   هي رسالة واضحة وقوية لكنها ربما تكون الأخيرة مفادها أن  أنصار التغيير في موريتانيا يريدونه هذه المرة قويا ومختلفا وجذريا، فقد سرقت ثوراتهم مرات ومرات بسبب خور النخبة السياسية الفاقدة للثقة في نفسها، وهم اليوم يريدون عملا احتجاجيا قويا يجعل استمرار حكم العسكر أمرا مستحيلا وينهي مع كل طبعاتهم الرديئة التي نهبث الثروة ومزقت الوحدة ونكست القيم.. فهل تقرأ  نخبنا المعارضة الرسالة أو الإنذار فتقطع مع أساليبها العتيقة في الاحتجاج، وتكف عن  عبث الحديث عن ثورة مرخصة في ظل نظام عسكري، أورهانها المضمر على مخلص عسكري يأتي بوعود جديدة وأكاذيب  سمجة وتجارب خرقاء.

 إن الشارع المتحمس للتغيير يريد من يقوده لساحات المجد من يفتك معه حريته كاملة دون الحاجة لترخيص من هنا أو إذن من هناك يريد من يقتنص فرصة اللحظة فيلحق موريتانيا بركب الخلاص من الاستبداد الذى حجزت فيه شعوب جارة وأخرى بعيدة مقعدها يوم   اجتمع فيها استعداد الشعب وجاهزية القيادة للعبور إلى  ضفة الحرية..   وعلى النخب السياسية التي قدر الله أن تكون في موقع القيادة أن تدرك هذه الحقيقة وتنتهي من إدارة المرحلة بمراحل تجاوزها الزمن  عليها أن تنتهي من تقديم خطب ميدان التحرير على أرضية  دراسة مبادرات قائمة على فلسفة احتقار الثورة واحتقار الثوار.. عليها أن تنظر  جنوبا لترى السنغال وقد طوت صفحة  عبدالله واد على وقع احتجاجات قوية قدمت فيها تضحيات أو أن تنظر شمالا لترى تونس وقد أنهت حكم بن على بتضحيات جسيمة، وأن تصوب البصر صوب مصر لترى كيف استطاع المصريون الأبطال افتكاك حريتهم من بين أنياب المجلس العسكري المرواغ. إن درس مصر بليغ وعميق الدلالة في مأساتنا الموريتانية التي يمثل العسكر عنوانها  تماما كما هوحال مأساة مصر منذ أن حكمها العسكر في الثالث والعشرين من يوليو عام 1953 .

25. يونيو 2012 - 13:43

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا