النَّصُّ المَاص..
(عندما تُفرغُ العقوبات النهائية النافذة من مضمونها)..في تعديل قانون الإجراءات الجنائية، لعام 2007، أضيف للمقتضيات المتعلقة بتنظيم الحرية المؤقتة، مقتضى جديدا، تضمنته الفقرة قبل الأخيرة من المادة 144، نصه: <<..في حالة تقديم طلب نقض لم يقع البت فيه بعد، تبت في طلب الإفراج المؤقت آخر محكمة نظرت في موضوع القضية، ويكون قرارها غير قابل لأي طعن..>>..فُهم هذا النص على نطاق واسع من طرف المحاكم، بأنه يسمح بمنح الحرية المؤقتة للمدانين بعقوبات نهائية نافذة، بمجرد أن يكون قرار الإدانة النهائي موضع طعن بالنقض لم يتم البت فيه بعدُ، وبهذا الفهم جرى العمل..1 ـ الحرية المؤقتة: أو الإفراج المؤقت، بتعريف بسيط، تعني إخلاء سبيل المتهم، المحبوس احتياطيا، في انتظار محاكمته، والحبسُ الاحتياطي بتعريف أبسط، هو الحبس الذي يسبق الإدانة النهائية، ويمكن أن تقطعه الحرية المؤقتة، وتحتسب مدته في العقوبة النافذة، عندما يبدأ تنفيذها، ويبدأ تنفيذ العقوبة عندما تكون نهائية (المادة 633 من قانون الإجراءات الجنائية)، وتكون العقوبة نهائية حين تصدر عن الغرف الجزائية أوالجنائية بمحكمة الاستئناف (المادة 460 من نفس القانون)..2 ـ يستمر تنفيذ العقوبة النهائية النافذة، إلى أن تنتهي مدتها، أو يقطعها: إلغاء الحكم النهائي القاضي بها، فيرجع الحبس احتياطيا، أو العفو العام، أو الحرية المشروطة (وهذه ليست الحرية المؤقتة)، وتجوز بعد مضي جزء من العقوبة، ويمنحها وزير العدل..3 ـ يتضح من هذا ـ وهو معلوم من القانون بالضرورة ـ أن الحرية المؤقتة إجراء استعجالي، يقطع الحبس الاحتياطي، في انتظار أن تبت المحكمة في أصل التهمة، ولا تعلق له بالعقوبة النهائية النافذة، التي تأتي بقرار فاصل في الأصل، وهي واجبة التنفيذ..4 ـ الفهم الذي أعمل في مقتضى الفقرة قبل الأخيرة من المادة 144، وبفعله سحبت مقتضيات الحرية المؤقتة على العقوبة النهائية، أفْرَغَ في الواقع العقوبات النهائية من قيمتها الردعية المرجوة، وتزداد وطأة هذا الإفراغ إذا استصحبنا أن الحرية المؤقتة تتحول في غالب الأحيان إلى حرية دائمة، لعوامل تفصيلها يطول..5 ـ من التناقضات العجيبة التي تنتج عن الفهم المشار إليه، لمقتضى الفقرة قبل الأخيرة من المادة 144، أن محكمة درجة ثانية، بهيئتها، وهيبتها، تحاكم متهما في جلسة علنية، أمام جمهور، ودفاعه يصول ويجول، وتقرر بعد النظر والمداولة، ليوم، أو لأيام أنه مذنب بارتكاب فعل جنائي، يستحق عقوبة السجن النافذ لسنوات، وتنطق علنا بذلك، ثم بعد فترة قصيرة تقرر نفس المحكمة، في جلسة مشورة مغلقة سريعة أنه يستحق ـ في حياة العقوبة النهائية السالبة للحرية ـ الإفراج المؤقت، وتمنحه له، ضاربة عرض الحائط بقناعتها الماثلة المتجسدة في عقوبة السجن النافذ ـ نهائيا ـ سنوات..هذا الفهم يضرب أيضا، مواد قانون الإجراءات الجنائية بعضها ببعض، فهو حين يعتمد على النص المذكور من المادة 144، يصطدم بمواد الباب الأول، من الكتاب الخامس، في تنفيذ الأحكام الجنائية، وخاصة المادة: 633، فيذهب تنفيذ الأحكام النهائية هدرا..6 ـ ناقشني أحد نبهاء الزملاء في هذا الموضوع، مستظهرا بنص المادة 20 من قانون العقوبات، ويفهم منه أن الحبس الاحتياطي يستمر إلى صيرورة الحكم باتا، وكنتُ وقفت عند هذا النص منذ سنوات، فبينتُ له ما يسقط الاحتجاج به في الموضوع، ولاحقا رجع إليَّ، وقد اطلع في القانون المقارن على أن الحبس الاحتياطي يطلق على ما قبل الحكم النهائي، ولا تعلق له بما وراء ذلك..7 ـ أتذكرُ من دروس الرياضيات في السنة الأولى اعدادية ـ على جهلي بها ـ أن أستاذنا السوري علمنا أن الصفر: "عنصر مَاصٌّ" في عملية ضرب مجموعة الأعداد الطبيعية، فكل عدد طبيعي مهما كبر، حين يضرب في (0)، تكون النتيجة (0)، مثلا: 144 * 0 = 0، وهكذا حاصل نتيجة ضرب كل عقوبة نهائية نافذة مهما بلغت، بمقتضى الفقرة قبل الأخيرة من المادة 144 من قانون الإجراءات الجنائية ـ في فهم محاكمنا ـ فَـ النتيجة = (0)..8 ـ أعتقد أنه من الملح ـ ونحن تحت صدمة فعل جنائي فظيع، وصدمات "مخرجات" التطبيق المستمر لهذا الفهم ـ تعديلُ نص المادة 144 من قانون الإجراءات الجنائية، على نحوٍ يعيد للعقوبات النهائية اعتبارها، ويسمح لها بتحقيق الردع المرجو منها، وإلا فلا معنى للتحسر، والتوجع والاستنفار عند وقوع كل جريمة..