أصل الانتخابات الديمقراطية، كوسيلة محايدة لمعرفة الرأي الغالب في الناس، إذا ما تعلق الأمر بشأن من تسند إليه ولاية الأمر العام-طوعا لا كرها-؛ هو مبدأ ركين وأصيل في كتاب الله المنزل، وفي الهدي القولي والعملي للرسول المبلغ عن الله؛ فقد حملت سورة من القرآن الكريم اسم سورة الشورى التي جعلها القرآن، في الأمر العام، سمة ملازمة للمجتمع المسلم، فأدرجها بين الصلاة والزكاة؛ كما مارس النبي صلى الله عليه وسلم تلك السمة، وألزم نفسه وأصحابه بمقتضياتها، سلما وحربا؛
لكن تبعات بيعة السقيفة، بعد منام النبي صلى الله عليه وسلم، والتي اعتبرها الخليفة عمر "فلتة وقى الله المؤمنين شرها"، وما كان لتلك الفلتة من تداعيات كامنة أنتجت الفتنة الكبرى، قد صرفت المسلمين، في وقت مبكر، عن رحاب السمة الربانية القرآنية، إلى أتون الجبرية القيصرية والكسروية والملك العضوض؛ وكما هو الحال السائد في مختلف الإمبراطوريات والدول من حول الأمة، استقل السيف الدامي بحسم الصراع المحتدم على السلطة، بين القبائل والأقوام والأعراق، وبواسطته تداولت سلطان الأمة-كرها-عبر العصور؛
في الأعصر الحديثة، استبقنا الآخرون، من الغرب خاصة، فسبقونا إلى ابتعاث مثلهم التاريخية من أجداث الحضارة الإغريقية السحيقة، حيث ابتعثوا فكرة الديمقراطية والانتخابات التي كانت أثينا قد أرستها بين السادة لا العبيد، والرجال لا النساء، في تاريخها السحيق، فخلصوها من شوب العبودية والعنصرية والتراتبية الظالمة، ثم مارسوها وقدموها كأنظف طريق عرفها التاريخ للتناوب على السلطة، وبدون حروب أو دماء أو انقلابات، وعليها استندت حضارة الغرب المهيمنة، وقامت نهضة شعوبه العملاقة، ثم صدرها للبشرية، وجعل منها سمة لازمة للحكم الرشيد؛ فسعدت بها الشعو.؛ أما عندنا فاعتبرها مفكرونا وكتابنا، لا حكامنا، بضاعتنا ردت إلينا؛
لقد تولى حكامنا في مختلف أقطارنا المستقلة كدول، في الشرق الأوسط والمغرب الكبير والساحل الإفريقي وغرب القارة، تولوا كبر الحيلولة بين أممنا وشعوبنا وبين فرصة النهل من المفاهيم المعاصرة للمواطنة والحقوق والحريات والانتخابات والمشاركة؛ فبعض تلك الأمم والشعوب، أجهز عليها غلمانها من حملة السلاح، ففرملوا انطلاقتها، بعيد فكاكها من ربقة الاستعمار مباشرة، فيما أحصر بعضها الآخر عن سعيه، على أيدي المسلحين من بني جلدته أيضا، وهو في منتصف طريق العبور إلى العصر.
إنها الحقيقة المرة، التي لا بد من ازدرادها، ولو بألم؛ فالمتغلبون علينا من أبنائنا وإخواننا لم يسمحوا قط، وهم لن يسمحوا بعد، لشعوبنا، المفرملة والمحصرة، بتَنسُّم عبير الحرية السياسية، أو الممارسة الصحيحة للعملية الانتخابية، ترجيحا لكفة من تختاره الأغلبية، بوعي، لقيادة مسيرتها، فظلت شعوبنا تراوح مكانها، مرتهنة لتخبط العسكر، فهو يسوقها من كرنيفالات انتخابية مزورة، إلى أخرى مثلها، في عملية سيزيفية عبثية متجددة، تغالب الشعوب في ظل بهرجتها المصطنعة، فشل الدولة الذريع، واقعا أو متوقعا.
ترى! أين تقع انتخاباتنا الرئاسية الوشيكة؛ هناك من يريدها قطيعة أبستمولوجية نهائية مع تراث وتقاليد أربعة عقود متتالية من الفساد، تحت سيطرة العساكر، وهناك من يريدها خطوة واثقة–ولو صغيرة-إلى الأمام، قد تقود إلى خطوات أكثر راديكالية في مستقبل متثاقل مطاط؛ وبين هذا وذاك، هناك من يريدها موسما للترحال والتطبيل والزمر والمكاء والتصدية، ومضاعفة الكسب من مختلف الأسواق والمعارض المواكبة للحملات... وخاصة أسواق الضمير!!..