ابتعدتُ في مساري الكتابي – غالبا - عن الشخصنة في أي سياق (تلميعا أو تجريحا) وكنت حريصا – ما وسعني ذلك - على التعاطي مع الأفكار والرُّؤى، بعيدا عن الأحداث والأشخاص.. غير أن السياقات توجهك أحيانا؛ بل وقد تفرض عليك تحوير نسقك أو تغييره.. من هنا تتنزل هذه القراءة؛ التي يراد لها أن تخوض في مساء فاتح مارس؛ ذلك المساء الذي مثل – في تقديري - واحدة من أهم المحطات التي شهدتها موريتانيا عبر تاريخها..!
لقد بدا لي مساء يوم 01 مارس 2019 تأسيسا لمرحلة جديدة في التعاطي مع الشأن السياسي العام.. بدا لي خروجا واعيا وهادفا عن الأدبيات السياسية السائدة في هذه الأرض؛ إنه بعثٌ لأنماط من "الأخلاق السياسية" هجرناها منذ أن غمرتنا ثقافة "الحزب الواحد" و"اللجنة الواحدة" و"الرجل الواحد"..!
نكاد نُجمع اليوم على أننا نقف على عتبة تحولات اقتصادية وسياسية واجتماعية كبرى؛ لكن الظاهر أننا نقف – أيضا - على مشارف تحول في "الأخلاق السياسية" يناسب تلك التحولات ويجاريها.. ولعله – إذا تعاطينا معه كما ينبغي - يصبح الضامن الأهم والأكبر لتسيير تلك التحولات وترشيدها في الإطار الذي يخدم طموحات موريتانيا وحاجياتها التنموية على كل المستويات (القريبة، البعيدة، المتوسطة).. ولعل أهم معالم ذلك التحول، أو أبرز تلك القيم (الواردة في خطاب الترشح) يمكن إجمالها – دون التعمق في التفاصيل - في النقاط التالية:
التواضع والبساطة:
ما إن صعد الرجل المنصة حتى بدأ في عناق عفوي للمتواجدين عليها في سلوك يوجه رسالة جلية أساسها: لست إلا بشرا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.. وحين أنهى خطابه دَارَ دورة كاملة بالملعب ليُحيِّي كل الحضور وليقول لهم: لقد حضرتُ من أجلكم أنتم أيها المواطنون البسطاء؛ وليس من أجل جمهور "السجاد الأحمر".. لقد عبَّرتْ تلك الرسالتان عن بساطة الرجل وعن تواضعه، وعن صدقه مع ذاته وانسجامه معها حين قال (مستحضرا - دون شك - خطبة أبي بكر رضي الله عنه بعد توليه الخلافة) إنه لا يرى نفسه الأفضل..!
الإنصاف والموضوعية:
دأبت الأنظمة في هذه الأرض (بل والسياسيون عموما) على الاقتيات السياسي من الخصوم، وتحميل السابقين (بالنسبة للأنظمة) كل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن أي تقصير أو نقص.. مستغلين جميع المتاح لشيطنتهم، ومتبعين فلسفة أهل النار كما وصفها القرآن الكريم: {كلما دخلتْ أمةٌ لعنتْ أختَها}.. لكن الرجل كان استثناء نادرا (إن لم يكن وحيدا) حيث استهل خطابه بإنصاف كل الأنظمة التي حكمتْ موريتانيا (بل وحتى المعارضات التي وُجدت – أيضا - في موريتانيا) باعتبار الجميع بذل ما لديه وفي سياقه؛ من أجل تقديم أي شيء.. خارجا بخلاصة حصيفة أساسها أن الكل وفَّر ما لديه وقدّمَ شيئا ما.
المروءة والوفاء:
إذا كانت أفكار "رجل الدولة" ألقت بظلالها على ذلك المساء، وطغت على فضاء الخطاب؛ فإن سلوك "رجل الهوية" – الضاربة في التاريخ قبل مسخ السبعينيات - حضر بعمق؛ إذ برهن على احترامه وتقديره للمرأة (وليس شفقته عليها) في استحضار موفق لتاريخ الماجدة "تانيت" وأيامها على هذه الربوع.. تجلى ذلك في إحضاره لوالدته الكريمة، ولشكره (الخارج على النص) للسيدة الأولى على حضورها وبصفتها الشخصية (أي كمواطنة موريتانية بسيطة).. كانت ثمة – وفي ذلك السلوك - رسائل بينة تقول إن المرحلة القادمة ستكون أرضية مناسبة لإحياء كل القيم الإيجابية (السياسية والمجتمعية..) بغية توظيفها والاستفادة منها.
الوعي والاستيعاب:
أظهر الرجل وعيا استثنائيا بالدولة النموذج؛ التي ينبغي أن نستثمر فيها؛ وهي دولة الحداثة ذات المرجعية الثقافية الذاتية.. القائمة على إنصاف الجميع ومساواته، والمهتمة بالتصالح مع تاريخها؛ تصحيحا لكل الأغلاط من أجل تجاوزها؛ مستوعبا بكل أريحية حق أصحاب "المظلوميات التاريخية" في مطالبة الدولة بتحمل مسؤولياتها تجاههم.. كل ذلك من أجل التأسيس لمستقبل سليم، تتوفر فيه التنمية، ويعم فيه الرخاء.. وقد برهن على هذا الوعي من خلال توجيه خطابه ومشروعه إلى الكل؛ بعيدا عن انتمائه العرقي والشرائحي والجهوي، وتخندقه السياسي..!
وضوح الرؤية ووضوح التعبير عنها:
إذا كان الرجل استطاع أن يبعث قيما "أخلاقية سياسية" هُجرتْ منذ أمد بعيد، وفي أطار واضح وهادف؛ فإنه استطاع كذلك (وهو أمر ليس أقل أهمية) أن يخرجها في قالب من الإبانة والفصاحة غاب عنا منذ أيام الخليفة عبد الملك بن مروان.. إذ خرج الخطاب متماسكا في كل أبعاده (مفرداته، معانيه، أدائه..) وأصبحنا أمام صورة "مكتملة" لمشروع سنلج معه مرحلة جديدة في مضامينها وأهدافها وممارساتها.. وجديدة في أساليبها وسلوكها وآلياتها وتعابيرها..!
خلاصات:
تُظهر القراءة السابقة أننا جميعا (موالاة ومعارضة) أمام فرصة استثنائية للتأسيس لمرحلة جديدة؛ نستثمر فيها الوسائل والطاقات في استراتجيات تنموية واضحة وفعالة؛ دون أن نُعرقلها بالتشرذم والتنابذ.. خصوصا أننا نتفق – تقريبا - على كل الأهداف والمقاصد..!
إن المرحلة اليوم مناسبة جدا لنضع الأيدي في بعضها ونبدأ في تنفيذ خطط تنموية هادفة وواعية؛ لعلنا نستعيض شيئا من هذه الإخفاقات والتعثرات التي عشناها خلال الستين سنة الماضية، والتي فَرْمَلَتْ مسيرة بنائنا؛ بل وشوهتها أحيانا؛ دون أن يعني ذلك – بالضرورة -سوء القصد أو الكيدية من أي كان..!
إذا كان بعض أنظمتنا الفارطة ليس جادا – أو كسولا - في شؤون التنمية؛ فإن معارضاتنا التاريخية ساهمت – أيضا - في تعطيل قطار التنمية وإرباك مشواره؛ من خلال التأزيم السياسي؛ عبر خلقه أحيانا، وتضخيمه أحايين أخرى.. من هنا علينا أن نستوعب الفارق الذي تحققه هذه اللحظة ونستغله في خدمة هذا البلد المحتاج إلينا كلنا كثيرا.. علينا – أيضا - أن ندرك أن ما يترصدنا من المطبات والعراقيل الإقليمية والدولية يكفي؛ حتى نخلق له أزمات أضافية.. ومع ذلك ثقتنا مطلقة في أن "موريتانيا تستحق، ونحن نستطيع"..!!!