كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميت ونقطع الرحم ويأكل القوي منا الضعيف ، ولم تكن لنا وحدة قومية تذكر وكنا عشائر وقبائل تتناحر والبقاء للقوي ، حتى بعث الله لنا " مفخرة الإنسانية " والنور الخالد محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور ، وأصبحنا سادة الأمم وفتحنا أقاصي المعمور من الشرق إلى الغرب وحكمنا العالم ردحا من الزمن وضرب لنا " الفاروق " رضي الله عنه قمة العدالة ، حتى حاد ببعض من أعداء الأمة أن يصف عدله بالخرافة ! وليس تكذيبا بل حيرة وإعجاب ودهشة ، وتوالت القرون بعد القرون المزكات ونحن مازلنا في عنفواننا مجدنا والعالم منحني لنا وأزدهرت فينا العلوم بشتى أصنافها وبرز فينا علماء وقواد خلدو في صفحات التاريخ من أمثال : الكندي والفارابي والبيروني وابن خلدون وجابر ابن حيان وابن النفيس والرازي وابن سينا والجاحظ وإخوان الصفا ومن القواد : خالد ابن الوليد سيف الله والظاهر بيبرس الذي أوقف زحف المغول ومخلص بلاد المسلمين من الصليبين الإفرنج الذين دامت الحروب معهم قرنين من الزمن صلاح الدين الأيوبي ، وأنشأت فينا مكاتب ومعالم قل نظيرها وأصبحنا رواد الحضارة وحينها قبل أن يترجم الغرب عنا مازال في سباة عميق وهم في ذالك الزمن في جدلية البيضة أو الدجاجة أيهما سابقة وابن الهيثم عندنا يتكلم في البصريات ويطور إكتشافاته ، وهم يعالجون مرضاهم بالسحر والشعوثة ابن النفيس يألف في الطب ويشرح الدورة الدموية الصغرى التي إكتشفها .
وهاهي إلى قرون حتى تفكك العرب وصارو دويلات ولم يعودو ذالك الجسد الواحد وكانت آخر خلافة تجمعهم هي الخلافة العثمانية والتي أعلن " أتاتورك " نهايتها عام 1924 وبذالك لم تعد للعرب حاضة واحدة بسبب تكارههم وتباغضهم وصدق ماقال فيهم المستشرق : " أنتم كنتم هنا في الأندلس لماكنتم لله خلائف وخرجتم منها لما أصبحتم على ثراها طوائف "
ونحن اليوم بعد سبقنا الحضاري للغرب الضارب في جذور التاريخ أحوج مانكون إلى بعث جديد على يد أناس إنتخبهم القدر لتدارك الأمة في هذا الوقت الحرج من عمرها ، ولقد حاول بعض المصلحين تدارك هذا الوضع من أمثال : جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو وعبد الرحمن الكواكبي وصولا إلى طه حسين وعباس محمود العقاد ومحمد حسين هيكل ونخبة لايتسع المقام لذكرها من أدباء وشعراء وفلاسفة ومفكرون ، بعضهم تمسك
بالماضي وجعله خشبة الخلاص من هذا الركود وآخر كان رده " نحيي الماضي ولانحيى به " ولاسبيل للنهوض إلى في مواكبة الغرب ولو تطلب ذالك التضحية بالجوهر وكان رد الفريق الأول هذا يعني موت الثقافة العربية الإكلاسيكية
وطائفة أخرى وفقت بين المدرستين التراثية التي تستشرف الماضي والتغريبية التي تياسر الغرب تأخذ من هذه وهذه مايصلح أن يكون نواة للنهوض ، لكنها اتهمت بالحلول السحرية التي هي درب من دروب الخيال ! وبين هذا وذاك طالب الشارع العربي بطرح يتجاوز المدارس الثلاث ويحقق تطلعات الشعوب .
ولنا ماضي يزخز بالمعاني والغزارة والميثالية وماعلينا سوا إعادة قراءته ووزنه بجدلية " المقدس والمدنس " وأخذ مايصلح منه وترك مدنسه وتحرير العقول من المكبلات الموروثة والإنطلاقة في رحاب الحداثة ومسايرة الغرب في تقدمه وغربلة ما أنتج ووزنه بميزان الشرع فإن وافقه فهو على الرأس والعين وإن خالفه فهو مردود وبذر في غير منبته ، وقد ذكر البروفيسور العلامة زغلول النجار أنه زار بلدان وجوامع العالم ومراكز البحوث والمختبرات التي على كعب الغرب فيها ووجد فيها خيرت العقول من العرب والمسلمين وأنه لاينقصنا سوى نبذ الخلافات والإتحاد ووحدة الكلمة لنتج شعوب راقية تكون مشعلا وضاءا في ديجور الأمم .
وحال هؤلاء الفرسان الدعوة إلى السلام والأخلاق وقوة العلم ولسان العصر وتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل كبير وصغير والإقتداء بصحابته ونهج نهجهم وعلاقة روحانية مع الله والإقبال عليه وصحة العزم وشحذ الهمم وترك الباقي له ، فإذا رأى قلب مقبل غير مدبر هيأ له الحلول والأسباب وتقبله وعظم في عيون عباده وصارت له رهبتا ورعبا في قلب عدوه وذلل له الصعاب وحقق له المنشود .
وكل الثورات والإنتفاضات التي كتبها التاريخ ليست بنت ساعة ولايوم وإنماهي تراكمات من كافة أطياف المجتمع عبر السنين والسنين وأنتجت ما أنتجت لصبر ومواظبة أهلها تماما كمن يزع شجرة البانبو ويسقيها كل يوم وتظل هكذا طيلة خمسة سنوات حتى تخرج للعالم وتأتي ثمارها ، ويسبق هذه الإنتفاضة تراكم الظلم وأبشع أنواع الدكتاتورية والقتل والتشريد وتكميم الأفواء ثم بعد ذالك يولد الفجر المرتقب كما حدث في عدة دول مثل : فرنسا والجمهورية الإسلامية الإيرانية وليبيا ومصر .. إلخ
ومايتطلع إليه مواطن اليوم ليس كما يتطلع إليه مواطن الأمس فبقدر التعلم تتحرر الشعوب وبقدر الجهل تستعبد الشعوب وكما يقول الثائر الفليبيني خوسيه ريزال : " لايوجد مستبدون حيث لايوجد عبيد " والعبودية ناتجة عن الجهل والركود وآن لنا الأوان ونحن على عتبة القرن الواحد والعشرون أن نحفر في صخرة الحياة : " حياة أفضل " وننبذ الكره والتباغض والعصبيات والتعرات والنزعات الجاهلية وأن نعود كما كنا ذالك الجسد الواحد الذي فتح الشرق والغرب والسند والهند وانحنى له الجببارة والأكاسرة والأساقفة .