لقد تابعت قبل أيام خطاب إعلان ترشح السيد محمد ولد الغزواني لرئاسيات 2019 وتابعت تعليقات بعض المدونين عليه في الفضاء الأزرق. وللأمانة فقد كان خطاب المترشح جيدا سواء من حيث مضمونه أو طريقة أدائه ولم يكن هذا الأمر مفاجئا فأول تواصل مباشر بين مترشح لمنصب رئيس الجمهورية والشعب يجب أن يحظى بالعناية اللازمة إعدادا وأداء.
لكن ما لفت انتباهي هو الحفاوة التي قابل بها بعض المدونين كون الخطاب باللغة العربية، فمنهم من أكد على سلامته من الأخطاء النحوية ومنهم من أكد على دقة اختيار المفردات اللغوية ومنهم من علق على طريقة النطق ومخارج الحروف حيث يرى أن المترشح أعطى كل حرف حقه ومستحقه في النطق، إلى غير ذلك من التعليقات التي تنصب في جلها على نقطة واحدة هي كون الخطاب باللغة العربية.
وهنا أريد أن أكون منصفا كما كان المترشح منصفا في خطاب إعلان ترشحه.
لقد بذل الرؤساء السابقون جهودا كبيرة في سبيل أن تحتل اللغة العربية المكانة اللائقة بها في الفضاء العمومي ويكفي أن نذكر هنا بإصلاحات التعليم المتتالية التي كان من بين أهدافها زيادة الوقت المخصص للغة العربية في البرامج التربوية ثم اعتمادها فيما بعد لغة رسمية للبلاد.
لقد بذل المرحوم المختار ولد داداه جهودا كبيرة في هذا الصدد، كما أنه من المعروف عن الرئيس السابق معاوية ولد الطايع اعتزازه باللغة العربية، ففي بعض الروايات أنه كان يطالب من لا يتحدثون العربية في مجلس الوزراء بضرورة بذل المزيد من الجهود في سبيل تعلمها. أما في السنوات الأخيرة، فإننا نجد أن فترة الرئيس محمد ولد عبد العزيز شهدت إنجازات مهمة تصب في خدمة اللغة العربية نذكر منها على الخصوص إنشاء إذاعة القرءان الكريم وقناة المحظرة الفضائية.
ولكن المتأمل لمسيرة اللغة العربية مدا وجزرا في الفضاء العمومي يدرك حقيقة واضحة وهي أن أبواب الإدارة العمومية ظلت ولا تزال موصده بإحكام أمامها.
ولا يغض من صحة هذا الحقيقة كون بعض الإدارات أو الوزارات هنا أو هناك تتعامل باللغة العربية لأسباب مختلفة لا يتسع المقام لذكرها.
إن إغلاق أبواب الإدارة العمومية بصرامة أمام اللغة العربية لا يمكن تفسيره بعامل واحد بل هناك العديد من العوامل التي تتشابك وتتداخل لكي تبقي الوضع على ما هو عليه إلى أجل غير مسمى.
إن حضور لغة معينة هو جزء من حضور الأمة الحاضنة لها. ولا شك أن الأمة العربية الإسلامية في الوقت الحالي ليست في أزهى عصورها. وإذا جاز لنا أن نستعير لغة الاقتصاد هنا، فاللغة العربية منتج عربي إسلامي والطلب عليها هو بالضرورة طلب مشتق من الطلب على منتجات هذه الأمة.
من ناحية أخرى وكما يقول صمويل هانتكتون في أحد كتبه فإن كل دولة توصف بكونها "همزة وصل" هي دولة مولودة "بضعف خَلقي ". فرغم أن التنوع العرقي والثقافي قد يكون مصدر ثراء وقوة فقد يكون أحيانا مصدر ضعف وتشتت. وفي هذا الإطار لا بد أن نشير إلى أن بعض مكونات المجتمع الموريتاني يرى في تمدد اللغة العربية في الفضاء العمومي نوعا من الإقصاء لأبنائه.
ولا يجب هنا أن ننسى كذلك – دون أن ننجر إلى نظرية المؤامرة في تفسير الأمور – دور فرنسا كأمة حاضنة للغة الفرنسية لها مصلحتها في بقاء لغتها حية ليس في موريتانيا فقط ولكن في الفضاء الفرانكفوني بشكل أوسع.
تتضافر كل هذه العوامل بدون شك لتقصي اللغة العربية من الفضاء العمومي، ولكن "صمود" الإدارة العمومية أمام محاولات اعتماد اللغة العربية كلغة عمل إداري هو في رأيي السبب الرئيسي في عدم تبوؤ هذه اللغة لمكانتها التي نصت عليها الدساتير المتعاقبة.
لقد اعتبر استاذ الاقتصاد الأمريكي الشهير كريكوري مانكيف أن علم الاقتصاد ككل محكوم بعشرة مبادئ رئيسية من بينها مبدأ يقول "إن الناس يستجيبون للحوافز". ويمكن في ضوء هذا المبدأ تفسير ظاهرة "المفرنسين الجدد" وكذلك تسابق بعض القامات التي كنا نحسبها حتى عهد قريب ذات هوى عربي إلى المدارس الأجنبية لحجز مقاعد لأبنائها. فإذا كان التعليم بالعبرية سيفتح أمامك أبواب الإدارة العمومية والقطاع الخاص والمنظمات الدولية فلا شك أنك ستقبل على التعلم بالعبرية دون تردد ومهما كلفك ذلك.
إن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، ومع ذلك فهي ليست اللغة التي تعمل بها الإدارات الحكومية. فمن يكمل تعليمه باللغة العربية في أي في أي ميدان، يكون عليه فور ولوجه الوظيفة أن يبذل جهودا جبارة للحاق بركب "المفرنسين". ويترتب على هذه الوضعية هدر كبير في موارد المجتمع الذي تحمل كثيرا في سبيل التكوين والتعليم باللغة العربية كما ينجم عن ذلك ضعف شديدة في الأداء الإداري نتيجة وضع الموظفين الجدد – المتعلمين القدامى باللغة العربية - في إدارة افرانكوفونية لم يتم إعدادهم للعمل فيها.
وقد زاد إصلاح التعليم الذي أقر سنة 1999 الطين بلة رغم أن هدفه الرئيسي كان في الأصل توحيد المناهج التربوية. فنتيجة لهذا الإصلاح تقرر إدخال اللغة الفرنسية في وقت مبكر من مراحل التعليم الأساسي وتدريس ما يعرف بالمواد العلمية بها باعتبار أنها لغة انفتاح على العلم والتكنولوجيا.
وقد نجمت عن هذا الإصلاح -رغم وجاهة هدفه الأصلي -آثار في غاية السلبية، حيث وضع شريحة كبيرة من المعلمين والأساتذة خارج الخدمة أو أسند لها مهمة التدريس بلغة لا تتقنها أصلا. كما ألقى بأعباء كبيرة على كاهل كل أسرة موريتانية وجدت نفسها مجبرة على أن تقتطع من دخلها ميزانية شهرية لتعليم أبنائها اللغة الفرنسية.
ونتيجة لهذا الإصلاح كذلك، تدفق على السوق الموريتاني عدد كبير من المعلمين والأساتذة الأجانب وفتحت بعض المدارس الأجنبية أبوابها. ولئن كان من المستساغ أن نعهد إلى أجانب بتبديل وإصلاح قطع الغيار في سياراتنا، فإن اسناد تربية أبنائنا إلى هؤلاء الأجانب مسألة فيها نظر.
إن اللغة الفرنسية ليست لغة انفتاح على العلم والتكنولوجيا كما يعتقد البعض، بل قد تعد سببا من أسباب التخلف. إن هناك من يعتقد أن اعتماد المنهج الديكارتي – المنقول أصلا عن ابن رشد – بما يتسم به من تحليل مفرط وبعد عن البراغماتية، قد يكون سببا من أسباب تأخر ركب الدول الفرانكوفونية عن نظيراتها الأنجلوساكسونية التي تعتمد منهجا عمليا براغماتيا. ولا شك أن أكثر من 90% من المعارف الإنسانية المتاحة اليوم خاصة عبر الإنترنت متاحة باللغة الإنجليزية التي هي بالفعل في الوقت الحاضر لغة الانفتاح والعلم والتكنولوجيا والتجارة والأعمال.
إن خيار التعليم باللغة الفرنسية خاصة في التعليم الابتدائي قد تسبب في معاناة شديدة لغالبية الأسر الموريتانية حيث يواجه التلاميذ اليوم صعوبات جمة في مختلف المواد الدراسية لأسباب يأتي على رأسها حسب اعتقادي اللغة التي يدرسون بها والتي لم تتوفر لهم الوسائل اللازمة لتعلمها بالشكل المطلوب.
لديَّ أطفال في المرحلة الابتدائية وقد أراجع لهم أحيانا دروس اللغة الفرنسية ثم أنتقل إلى دروس الرياضيات أو العلوم، وعندئذ أجدهم يسألونني عن نطق هذه الكلمة الفرنسية أو تلك وعن معاني جل كلمات الدروس وعما يريد منهم المعلم فعله في التمارين، فأعود من جديد لأراجع لهم اللغة الفرنسية وهكذا يستمر الدوران معهم في حلقة مفرغة.
وفضلا عن ذلك، فقد كانت لي في السنوات الماضية خبرة يسيرة بالتدريس في مستوى الماستر فوجدت أن هذه المشكلة مطروحة حتى في الماستر. ونتيجة لضعف مستويات الطلاب – من جميع الشرائح – في اللغة الفرنسية فقد كنت ألجأ في امتحاناتي إلى أسئلة تتطلب أقل قدر من التحرير باللغة الفرنسية.
فإذا أضيفت إلى مسألة لغة التدريس الخصخصة الفوضوية للتعليم والنواقص الواضحة في الكتاب المدرسي وضعف رواتب المعلمين تكتمل الصورة القاتمة للواقع الذي يعيشه تعليمنا الابتدائي. فبعض المدارس الخصوصية باهظة التكاليف سخية في الدرجات بخيلة فيما تمنحه للتلاميذ من زاد لا يكاد يبلغهم حل مسألة حسابية أو تركيب جملة بسيطة. أما الكتاب المدرسي فيتميز -في بعض عناوينه وطبعاته على الأقل -بحجمه الصغير، وخطه الرفيع وألوانه الباهتة ومحتواه المعقد الذي لا يتماشى مع الفئة العمرية للتعليم الابتدائي. وأما راتب المعلم فما يزال دون المستوى المطلوب رغم الزيادات المهمة التي حدثت في السنوات الأخيرة.
إن على أولياء الأمر أن يختاروا بين إمرين إما بذل جهود حقيقية حتى يتقن التلاميذ والمعلمون اللغة الفرنسية التي تقرر اتخاذها منذ سنة 1999 وعاء لنقل المعارف للتلاميذ والطلاب أو اتخاذ قرار صارم بعودة اللغة العربية كلغة لدراسة كافة المواد في المرحلة الابتدائية على الأقل.
ويجب أن تصحب هذا القرار-في نظري -قرارات أخرى مهمة من قبيل تحريم المدارس الخصوصية في المرحلة الابتدائية، ومنع الجمع بين الخاص والعام في ممارسة التعليم الابتدائي، وتدريس اللغات الوطنية للصغار على عموم التراب الوطني. ولا شك أن هذا الإجراء الأخير سيزيد من تقوية اللحمة الوطنية، فنحن شعب لا يحادث بعضنا بعضا بلغته الأم إلا لماما، ويجب أن نضع حدا هذا الأمر.
أما إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فسنجد أنفسنا في المستقبل القريب في وضعية صعبة بعد أن تكون أفواج من أبنائنا قد وصلوا إلى سوق العمل ومعهم زاد قليل من العلم، لا يتكلمون العربية ولا الفرنسية ولا يكتبونهما ولا يكلم بعضهم بعضا بلغته الأم، ولا يحسنون سوى الضغط على زر من أزرار الهاتف النقال أو الآيباد.
في نفس الوقت، ستكون هناك ثلة قليلة من الناس قد تعلموا-بما توفر لهم من إمكانيات -في المدارس الأجنبية، ولكنهم سيكونون غرباء في مجتمع لم يحظ فيه غيرهم بمثل ما توفر لهم من معارف وتعليم. وبعبارة أخرى ستتفاقم الفوارق الاجتماعية في بلادنا بشكل كبير.
من جهة أخرى، فإن إصلاح النظام التربوي الذي تحدث عنه المترشح محمد ولد الغزواني أمر لا يمكن أن يؤتي أكله إذا استمر تجاهل مسألة لغة التدريس ولغة العمل في الإدارة العمومية، وجدلية العلاقة بينهما.
هذا وقد تضمن خطاب المترشح محمد ولد الغزواني نقاطا أخرى في غاية الأهمية ولم تحظ بنفس العناية من قبل المدونين ولكن المقام يضيق عن تناولها وأرجو أن يكون ما عبرت عنه هنا من رأي يندرج في باب الرأي الرصين الذي وعد المترشح بالاستماع إليه.