صبيحة الأحد الماضي، كنت عائدا من منطقة "لبيرات".. من القرى التي تسألني كل أسبوع ما إذا كان الرئيس عزيز أطلق سراح محمد الأمين ولد الداده..
يعرف الشاعر أحمد ولد الوالد تماما توقيت عودتي، ففي كل مرة يتصل بي عند دخولي الضاحية الشرقية للعاصمة نواكشوط ويطلب حضوري إلى مقر الاتحاد لأشاركهم بعض التصورات حول الخطة المستقبلية للاتحاد وأنشطته.
يسألني الشاعر محمد ولد أعلي هو الآخر دائما عند عودتي من "لبيرات" عن سبب حبي الشديد للماء.. أقول له إن مياه تلك الآبار عالية الجودة، وكل ما هو ثمين غال تماما كالسيولة فهي دائما ناقصة.. حتى عند "تجار السموم" (السجائر)، الذين يبيعوننا "السموم المزورة"..
أخبرت ولد الوالد أنني عائد للتو من رحلة إلى والدي، وأن الوالد حفظه الله ورعاه، طلب مني أنا وإخوتي "خطة استعجاليه" لإنقاذ قطيع البقر الذي يملكه.. الأبقار التي تفغر أفواهها ولا أمل غير "جيبي"..
وبالتي أنا مشغول عنكم أيها الأدباء.. فرد قائلا "أمرك يا جنرال"..
تعود الشاعر ولد الوالد "أن يناديني بـ"الجنرال" لأنني نفذت ثورة ربيع أدبية في الاتحاد، ورفضت تعليبه أو تسييسه، لكن الزملاء باتوا يسمون دوري المتواضع في ذلك بـ"الانقلاب".
والحقيقة أن الفضل يعود في ذلك إلى أولئك الشعراء الشباب الذين أصروا أن يكون لهم صوت في نقابة الأدب، وأن يبدأوا مجهودا إصلاحيا يجعل الاتحاد بمستوى الطموح المعلق عليه كرمز للثقافة الشنقيطية.
أذكر قبل يومين من انتخابات الأدباء أن أحد زعماء المعارضة اتصل بي وقال لي "المختار السالم كيف تسعى لتنصيب ولد المعلى رئيسا لاتحاد الأدباء وهو رمز للنظام.. أليس مذيع البيان رقم واحد".
فقلت له "أسألك إذا كان ولد المعلى يملك الكفاءة الأدبية"، فرد "فعلا يملكها فهو شاعر كبير ولا شك، ولكنه رمز للموالاة".
قلت "حسنا ما دمت تشهد له بالكفاءة الأدبية فأرجوكم أنتم السياسيين أن تتركوا لنا اتحاد الأدباء منطقة خالية من الألغام السياسية.. نريد اتحاد للأدباء ولا نريد ائتلاف سياسيا".
فعلا طبيعة الشاعر هي طبيعة انقلابية، فهو يستولى على سلطة النص من دون انتخابات ولا رأي عام ولا اتفاقات أو حوارات سياسية.. الشاعر أول من سن سنة الانقلاب عندما تحدى تابوهات الحريم، وتغزل بالجواري محاربا بذلك الاسترقاق الغزلي، الذي فرضته "بنات العم"، وهو أول معارض للكبت بكافة أشكاله.. وهو من أسس بجداره اللغوي الناعم لحراسات القيم..
يسأل الكثيرون عن سبب غيابي عن لقاء الرئيس باتحاد الأدباء..
أعتقد أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز كان يعد العدة للقائي، فهو بسجيته يحب "الانقلابيين" وأنا انقلابي بطبعي وطبيعتي، كما أن الرئيس قد يكون بحاجة ماسة لمشاهدة "مستقل" لا ينتمي لهذه المعارضة المجنونة الثائرة، ولا ينتمي للأغلبية البائرة التي تدق طبولها منذ العصر الجوراسي، ولم يخفف ذلك من عنوستها الشعبية.
نحن شعراء هذا "الربع البرزخي" نتحمل معاناة مضاعفة.. نحس أن خياطي نواكشوط أذكياء لأنهم باتوا يفصلون جيبا صغيرا للملابس.. إذ لا حاجة للجيوب الكبيرة في ظل انعدام السيولة.. الجيوب في ملابسنا أصبحت للذكرى فقط.
إن حظنا سيء تماما، ولا يوجد اليوم أي شاعر في وظيفة سامية.. لا سفير ولا وزير ولا مدير ولا رئيس مصلحة..
إنهم مغتربون "مهاجرون بأقلام مهاجرة"..
حين أقول إن الشعراء محرومون، يجب أن يعلم من لا يعلم، أنني رفضت الوظائف في عهد ولد الطايع الذي استقبلني ثلاث مرات.. ورفضتها في عهد أعلي ولد محمد فال الذي استقبلني الأسبوع الأول للانقلاب... وكان متعجبا من هذا الشاعر الذي لا يريد وظيفة ولا فلوسا.. رغم أنه وضع في "جلسة" أبجدية البروبوكاندا الإعلامية لذلك النظام الإجماعي الوحيد في تاريخ البلاد.. ووضعها من وراء الستار ليترك الآخرين يشعرون بدور البطولة.. تماما كما يشعر البالون بحجمه جراء الهواء... كما رفضتها في عهد ولد الشيخ عبد الله، وكتبت ذلك على الصفحة الأخيرة من جريدة "الشعب" وقتها.. وبعد انقلاب 6 أغسطس كانت شخصية سامية تترجاني كل يوم لأقبل بالتعيين..
وقبل هذا سنة 1995 تغديت مع الملك عبد الله (ولي العهد وقتها) في قصره بالرياض حين استقبل الشعراء المشاركين في مهرجان الجناديرية، وكان بعض الإخوة السعوديين الأفاضل يلحون علي بالبقاء في السعودية والعمل بمرتب مغر..
لقد اخترت البقاء هنا في "الكبات" وأكل "العليشة".. فمن يصدق هذا الكلام..! لا أريد منكم تصديق ذلك.. لكن بحول الله وقوته سيأتي اليوم الذي أكتب فيه وأشرح أسباب ذلك..
"ما أسهل جمع المال لو كان الضمير يرضى..."..
الآن أقول لـ"كتاب الشيفرات" والـ" ب. أر" اطمئنوا، فلن أزاحمكم على الوظائف ولا على لعق الأصابع العالية..
إن الشعراء الموريتانيين يتعرضون للسطو المسلح حين يفكرون في الزحف ليلا إلى خيمة الحداثة والارتشاف من نبع جديد... لأن "ذائقة المازونيات" لا تقبل سوى التغني بالنوق والديار، والأرداف الثقيلة الوزن.. والنهود الجبلية التي تدفع المرء للعيش في "صومعة" القديم..
إنهم يتعرضون للإكراه على يد الجمهور الذي لا زال يفرض أن تقف وتبكي وتستبكي وتذكر الحبيب والدار في شطر واحد..
إن الشعراء لا يشعلون الحرائق لكنهم دائما يزرعون الكبريت...
لا يمكن للشعراء أن يجدوا الإلهام في البهو الخلفي للحزب الحاكم.. لكنهم يتغنون دائما بالبلاد.. بالوطن.. حتى وهو قفر يلاعبه السراب والجفاف.. فالوطن سيبقى أجمل من سرب الورود الذي يحتضنه خد ليلى، وتلاله العارية ستظل أجمل من أرداف كل حسناوات العالم..
في البلدان "الأخرى" يهرع رؤساء الدول إلى الأماسي الشعرية لتثمين شعرائهم وإعطائهم دفعا معنويا ولجذب وسائل الإعلام لإبداع الأدباء.. وفي الدول "الأخرى" خصصوا قسما استخباراتيا خاصا لترويج الإبداع الوطني.
عندما قال مدير المخابرات السوفيتية لاستالين "إن أعضاء اتحاد الأدباء الروس لا يفعلون شيئا سوى أنهم يشربون الفودكا وعندما يسكرون يسبون النظام".. رد عليه استالين بقوله "ولكن ليس لنا من الأدباء إلا هؤلاء"..
فمن لهؤلاء الذين لا يشربون الفودكا.. ولا يتعاطون إلا نبيذ الشعر..؟!