يتصل بي من حين لآخر بعض أطر ومثقفي الزنوج الموريتانيين محتجين على بعض الأخبار والتسريبات التي أنشرها أو بعض المقالات التي أكتبها وتعنى بملف هذه الشريحة الوطنية.. لأن بعض الكتابات يقع فيها خلط.. حتى تعطي تصورا بأن المعني هو كل الزنوج.. وهو خلط يقع فيه الكثيرون.
وأنا مسبقا أعتذر عن كل تعميم صدر مني، وأعتذر للذين وجدوا أنني ظلمتهم.
أعرف أن البعض يصفني كواحد من "غلاة" القوميين أو "العربجيين" أو غير ذلك من عبارات تصلني بالبريد الألكتروني وأحيانا بغير بريد..
إلا أن شخصية زنجية بارزة اتصلت بي من الخارج عقب تعليق نشر مؤخرا ويحذر من "صوماليات جديدة" إذا أصر مهندسو حركتي "أفلام" وربيبتها "لا تلمس جنسيتي" على ما يخططون له حاليا أو مستقبلا من تصعيد.
ونتيجة ذلك الاتصال، وهو من شخصية أعزها وأقدرها وأعرف مقدار وطنيتها، أود هنا توضيح بعض النقاط..
أولا: فيما يخص شخصي المتواضع.. ليعلم الجميع أنني أعتز كثيرا بالحضارة الزنجية وما يربطها بالحضارة العربية والإسلامية من وشائج تفوق كل التصورات وتعلو على كل الأهواء.. ويستحيل فصل هاتين الحضارتين السياميتن.
ثانيا: أعرف أن الزنوج الموريتانيين تعرضوا لمظالم.. لكن هذه المظالم شملت الجميع في هذا الوطن.. لعل البعض لم ينس خلال السبعينات قتل العرب الصحراويين وأقاربهم وسحل جثثهم ورميها في البحر أو تعليقها في ضواحي نواكشوط..
العنف في موريتانيا ليس عنصريا، لقد طال الجميع من عرب وزنوج.. وفق دائرة أخطاء الأنظمة المتعاقبة.. بل إن الظلم الذي تسببت به حركة "أفلام" للعنصر العربي في موريتانيا وغرب إفريقيا يفوق كل تصور.. سنة 1989 نصف مليون عربي قتلوا وهجروا وسلبت ممتلكاتهم واغتصبت نساؤهم وتم شي بعضهم في الأفران على الهوية.. في السنغال.. القصة معروفة..
وسبب كل تلك الكارثة هو شحن "أفلام" ومخططاتها السياسية والعسكرية التي انتهت إلى مأساة..
لكن الشعوب العظيمة لا يمكن أن تعيش دائما متقوقعة في الذاكرة الحزينة.. كما تود "أفلام" لنا ذلك..
لقد التقيت ببعض أكبر مؤسسي "أفلام" وحين شرحت لهم أن خطاب الحركة وأسلوب عملها خلال الثمانينات والتسعينات أضرا بالزنوج الموريتانيين لأن هذا الخطاب العنصري المتطرف زرع الحقد والكراهية ضد هذه الشريحة في أوساط شعبية كانت غير معنية بتجاذبات الامتيازات في هرم الدولة.. وفي وقت ما باتت تشعر أنها مستهدفة.. لقد وافقني من التقيتهم على صدقية هذا التحليل.. وفهمت من ألئك الطيبين في "أفلام" أن ذلك الخطاب كان خطاب إملاءات جاءت به جهات ما ولم يتم فعلا تدارك الأمر.
ثالثا: لم تقدم الدولة الموريتانية على تسوية أي مظالم لشريحة في تاريخها سوى شريحة الزنوج.. وهذه خطوة بغض النظر عن ملابساتها يجب أن تبقى "فنية" وغير مسيسة.. حتى ولو كانت ناقصة لأن ركوب موجتها لتحقيق مآرب سياسية لهذا الفصيل أو ذاك.. أمر خطير جدا..
لقد صنعت "أفلام" مأساة الزنوج الموريتانيين بنفسها.. ولا توجد مكاسب كثيرة باستثناء حصول أعضاء "أفلام" على بطاقة الإقامة الخضراء في الغرب ونقود جيب..
رابعا: ينتقدني البعض حين أهاجم السنغال أو مالي وموقفهما من وطني موريتانيا.. ويعتبر ذلك عنصرية.. وكأن البعض لم يقرأ ما كتبته عن أنظمة عربية أرادت إن تلعب بمصلحة موريتانيا.. وما كتبته عن تلك الأنظمة موجود وموثق على شبكة الانترنيت وصفحات الجرائد..
ثم من يجب أن يوصف بالعنصرية.. وما هذه العنصرية التي لا ينتبه لها أحد إلا حين يعبر فرد من الشريحة العربية عن آرائه.. ونحن لدينا آلاف الشبان الزنوج الذين يخرجون في مظاهرات في شوارع العاصمة والمدن الأخرى صارخين علنا بكره شريحة من مواطنيهم.. "العرب- البربر"، مع كل مقالات وخواطر وتلفيقات الكتابات العنصرية التي تنضح بها المواقع والصحف والمنتديات...
هل شاهدتم مسيرة واحدة في هذه البلاد تصرخ بكره الزنوج.. هل وجدتم سياسي عربي واحد يقول في الشارع العام أنا أكره الزنوج وسأقضي على مصيرهم في هذا البلد.. هل إذا حدثت مظاهرات مناوئة للزنوج يمكن أن نجد لها أي مبرر أحرى أن نعتبر أن الأمر ليس إلا فئة تطالب بحقها..
لماذا لا يوصف الذين يزبدون صباح مساء بكره العرب، بأنهن عنصريون.. وبدلا من ذلك يوصف من ينتقد عنصريتهم بأنه هو العنصري.. أي منطق هذا..
وهل يتصور أي عاقل في هذا البلد أن الخطاب "الفلامي" المتطرف بمستوياته المختلفة سيفيد الزنوج الموريتانيين.. إن المرء لا يحصد إلا ما بذر.. لا يمكن أن تبذر الحنظل وتجنى العسل إطلاقا..
إن هناك أسئلة لا تحتاج إلى الإجابات المتشجنة..
أولا: لماذا يقبل الأطر الزنوج أن تتحدث أقلية متطرفة باسم المجتمع الزنجي سواء كانت أفلام" أو "لا تلمس جنسيتي".. وتسعى لحرق البلد.. إن هذا الخطأ جعل اليوم الأغلبية البريئة من المواطنين العرب تتصور لنقص المعلومات وتأثير الدعاية المغلوطة أن كل الزنوج أعداءها وأعداء بلدها وأعداء حضارتها العربية.. في حين أن هناك من الزنوج من هو أحرص على مصالح موريتانيا من الجميع.
ثانيا: لماذا يسكت البعض على تولي بعض القيادات الأجنبية للعمل القومي الزنجي في موريتانيا.. رحم الله صال عبد العزيز، حين صرخ ذات يوم وأمام ملإ من الحضور السياسي، في وجه صار إبراهيما مختار قائلا: "إسكت فأنت سنغالي..".
ثالثا: لماذا تسكت أغلبية المثقفين الموريتانيين الزنوج عن حملة التشويه الممنهجة ضد الشريحة العربية في هذا البلد.. لو كتب هؤلاء أو تكلموا لكفونا عناء الخوض في هذا المجال..
أخيرا.. أود توضيح أنني أحيانا أكتب رأيي بصراحة ودون لف ولا دوران.. ولا أقيم وزنا للاتهامات المجانية التي يكيلها لي هذا الطرف أو ذاك..
وأحيانا يطلعني البعض على معلومات، فأعتبرها بحسي الصحفي "رسائل".. وهذه الرسائل لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظري ولا قناعتي.. "لكن أليس من الأفضل قراءة الرسائل وعدم التهجم على حامل البريد".
إذا كتمت أنا، كصحفي، المعلومات التي لدي فقد يوصلها "هواة المعلومات" بأمانة أقل وبتحريف أكثر.. وقد لا تصل الرسالة إلا بعد فوات الأوان.. حيث لا تنفع النصيحة..
الآن أقول لمن يهمه الأمر، وتذكروا هذا جيدا: إذا استمرت "أفلام" الجديدة بواجهة "لا تلمس جنسيتي" تأتمر بأوامر ما وراء الحدود من السنغال و"إسرائيل" وتحاول تفريق العرب الموريتانيين وتأصيل "محرقة عرقية".. والابتزاز لصالح هذا السياسي أو ذاك.. فعليكم أن تحضروا الذاكرة الوطنية لكل ما يدعو إلى الاشمئزاز... صدقوني..
على الجميع هنا أن يفهم أن "إنذاراتي"، كما يسميها البعض، هي نتيجة تحليل ومعلومات دقيقة.. وحين نصحت الحكومة المالية قبل سنتين بالتوقف عن التعامل مع القاعدة واللعب بالنار على حدودنا الشرقية وأمن بلادنا (والدول أصلا لا تسمع نصائح الافراد البسطاء).. لم يتصور البعض النهاية التي تحدثت عنها وقتها.. وها هي مالي للأسف تحترق وتضمحل..
إن الرد على الطعن تحت الحزام في هذه المنطقة من الساحل لا يكلف الكثير من الذكاء ولا من المال..
وحين يصل الأمر إلى محاولة البعض "تبييض اعتدائه" علينا عبر تحريك هذا الملف أو ذاك، لا يمكن إلا أن يكون هناك رد سريع وعاجل وحاسم.. لأنه لا يوجد الكثير من الوقت للتفكير حين تشعر بالقبضة التي تلتف على عنقك..
مالي لعبت بأمننا الوطني خلال السنوات الماضية، والسنغال فعلت ذلك، ولا تزال، والأفضل أن تتوقف عسى أن لا تنشغل بذاتها تماما كما الحال الذي انتهى إليه ما كان يوصف بأفضل ديمقراطية في غرب إفريقيا.. في مالي الشقيقة الجريحة.. لقد تم ذلك بأبسط التكاليف وأسرع وسيلة وأخبثها إن شئتم.. ولم تقم بذلك الحكومة الموريتانية، كما قد يفهم البعض، بل قام به "رجل الظل في هذا الوطن".
فيما يخصني أيضا..
أولا: أعرف، بل من الحشو القول إن الزنوج الموريتانيين ليسوا كلهم "أفلام" و"لا تلمس جنسيتي"، بل إن هذه الأخيرة هي قلة ومن الأنصار السابقين لصار مختار الذين انسحبوا عنه.. مفضلين خطا أكثر تشددا وعنصرية..
أغلبية الزنوج الموريتانيين هي الأكثرية الصامتة.. التي دفعت الضريبة المزدوجة لأخطاء النظام وتطرف القوميين الزنوج..
أعرف أن الزنوج الموريتانيين ينقسمون إلى عدة طوائف أيدلوجيا.. القوميون الزنوج العرب، القوميون الزنوج الفرانكفونيين، القوميون الزنوج المستقلين، الشيوعيون والإسلاميون..إلخ.
أعرف أن أكثرية الزنوج الموريتانيين محرومة من الدولة لحساب قبيلة زنجية معروفة تشغل كل شيء.. فالجنرالات الثلاثة الذين يقودون قيادات الأركان والوزراء والمدراء والولاة والحكام والمسؤولون الزنوج الآخرون .. كل هؤلاء من قبيلة زنجية واحدة.. بينما تحرم 50 قبيلة أخرى.. لأن النظام و"آليته" لم يكلفوا أنفسهم دراسة هذا الملف الاجتماعي الذي يشهد خروقا خطيرة قد تكون هي سبب البلوى والتطرف..
أعرف أن المثقفين والأطر الزنوج الوطنيين المعتدلين مهمشون لصالح "مدراء الملف العرقي"، أو "وكلاء السمسرة العرقية"..
لكنني أعرف أن العدالة لن تأتي عبر الإرهاب السياسي واللفظي، المصحوب بأعمال العنف وحرق وتحطيم الممتلكات العامة والخاصة والاعتداء على رموز الدولة، والهجوم على الأغلبية العربية.
من يتصور أن كل هذا سيقابل بالاستكانة مهما كانت الظروف.. لا يمكن أن تبذر الحنظل وتجنى العسل إطلاقا..