رحل أمس الأول إلى جوار ربه الرجل الصالح الزاهد والرئيس السابق لموريتانيا محمد محمود ولد أحمد لولي وهي مناسبة ندعوا له فيها بالمغفرة والرحمة ونتذكر فيها ما تميز به
من زهد وإعراض عن حب الشهرة والجاه
بداية نذكر بأن محمد محمود ولد أحمد لولي ولد عام 1943ودخل الجيش أيام استقلال الدولة سنة 1960
فكان ضمن الرعيل الأول من الضباط الموريتانيين الذين ساهموا في إنشاء و تطوير المؤسسة العسكرية الموريتانية
وخلال مساره الوظيفي مع رفاق السلاح تقلد الكثير من الوظائف الهامة كما عرف بالكفاءة والشجاعة ومن المعروف أنه نشأ في بيئة اجتماعية تميزت بالعلم والمحافظة على القيم السامية والأخلاق الفاضلة
كما أن بيئته الخاصة (الأسرة ) عرفت بالتدين و بالاستقامة والتمسك بقيم الورع والزهد تلك هي بئته وحاضنتها الاجتماعيةلقد تركت تلك التنشئة أثرها الطيب على سلوك الضابط الذي سيصبح فيما بعد رئيس دولة وبقيت عالقة في ذهنه لتستحوذ لا حقا على تفكيره وتحكم سلوكه طيلة حياته
الضابط الناجح:
في مرحلة مبكرة من حياة محمد محمود ولد أحمد لولي أصبح ضابطا خلقوقا و وسيما شجاعا قوي البنية لكن تلك الصفات لم تغير سلوكه إلى التكبر والنرجسية فقد جمع مع قيم الفروسية والمكانة الاجتماعية قيم التواضع والبساطة والأريحية فكان رحيما بالجنود والعمال الذين يدير شؤونهم بالحرص على مجالسهم و الأكل معهم على مائدة واحدة ومؤآزرتهم إذا ظلموا ولم يكن الرجل يفخر أو يتظاهر بما وهبه الله من قوة بدنية وإقدام ومكانة في المجتمع والدولة بل كان يستخدم تلك المزايا بقدر الحاجة الشرعية لها وفي الفترة التي لم يكن العمل في جبهة القتال خلال حرب الصحراء مرغوبا طلب التحويل إلى خطوط المواجهة لتأدية الواجب
المسؤولية الكبيرة :
كان من الطبيعي أن يحظى محمد محمود ولد أحمد لولي بمكانة مهمة منذ 10يوليو
1978 فهو الضابط المتميز الذي يكن له كل رفاق السلاح الإحترام
وهو إضافة إلى ذلك يتكئ عل مكانة اجتماعية كبيرة
وفي 6 ابريل 1979 أنشأها مع أحمد ولد بسيف رحمه الله والرئيس محمدخونه ولد هيداله اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني ليعينه زملاؤه رئيسا للدولة في 3 يونيو1979 وأتذكر وأنا أحضر للشهادة الإعدادية يومئذ( 1979) أن حديث الناس في تلك الأيام كان يدور حول عدم رغبة الرئيس في الحكم وأنه يسعى لترك السلطة خوفا من تبعات حقوق الناس .........
في 4يناير 1980 تخلى المرحوم محمد محمود ولد أحمد لولي عن السلطة ليخلفه فيها رفيقه الضابط محمد خونه ولد هيداله
ومنذ ترك الرجل الحكم اعتزل السياسة وتفرغ لمراجعة القرآن الكريم والفقه مع تبني حياة التقشف والابتعاد عن استغلال النفوذ لجني المال فالرجل من طينة أخرى وعالم غير عالمنا المادي
حياة ربانية :
عاش محمد محمود ولد أحمد لولي رحمه الله حياة تقوم على المبادئ التالية :
أولا :القطيعة التامة مع السياسة
فلم يؤثر عنه دعم لزيد أو معارضة لعمر ولم يؤثر عنه تصريح أو إصدار بيان سياسي
ثانيأ :حجز أكبر مساحة من وقته لدراسة القرآن الكريم وتلاوته ومطالعة الكتب والمحافظة على الصلاة في المسجد
ثالثا : عدم السعي في التحصيل المادي والابتعاد الكلي عن جميع أشكال العلاقات المرتبطةب باستغلال النفوذ
فعاش رب أسرة بسيطا يعيش حياة الكفاف وهو الذي كان ضابطا ساميا وموظفات ساميا ثم رئيس دولة
وهناك صفات أخرى عرف بها الرجل منها حسن الخلق وحفظ اللسان والإعراض عن اللغو
وإذا نظرنا إلى هذه الصفات والقيم سنجد آنها من صفات عباد الله الصالحين
لقاء خاص :
لم اتعرف عن قرب على هذا الرجل الصالح ومع ذلك حصلت على معلومات واسعة وحكايات متواترة كونت من خلالها صورة
متكاملة عن شخصيته أما
اللقاء الوحيد الذي تحدثت معه فيه مباشرةفكان سنة 2011 على ما أعتقد حيث كنت أعد وأقدم في التلفزة الموريتانية برنامج ذاكرة وطن وهو برنامج هام نال مكانة كبيرة لدى الجمهور وقد استضفت فيه الكثير من الشخصيات السياسية الوطنية التي ساهمت في تأسيس الدولة
وقد سعيت ليكون الفقيد ضيفا في البرنامج وكانت رغبتي في موافقته شديدة لما في ذلك من سبق صحفي إضافة إلى ما يملك
الرجل من معلومات هامة عن فترة سياسية كان فاعلا فيها وتميزت بما يمكن أن نسميه حرب النجوم والصراع على السلطة بين قادة وأعضاء اللجنة العسكرية للخلاص الوطني واللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني
بذلت جهودا نوعية لأحظى بمطلبي من الرجل فاتصلت بشخصيات وازنة سعت عنده ليستجيب لطلبي كما عرضت الموضوع على ابنته الزميله اتبيرة مقدمة ومنتجة البرامج بالإذاعة الوطنية ثم اتصلت به مباشرة وهو خارج من المسجد بعد صلاة العصر فبش في وجهي ورد على تحيتي بأحسن منها واستمع لطلبي فكان جوابه وفقكم الله وحفظكم لكنني لا أريد الشهرة ولا أحب الدخول في دوامة الإعلام والسياسة
إن زهد الرجل في السلطة والشهرة وممارسة السياسة وجمع المال تجعلني أصنفه ضمن الرعيل الأول من زهاد الأمة الإسلامية
وقد قال العلماء :من ترك شيئا
من الدنيا مع القدرة عليه خوفا على قلبه ودينه فله نصيب كبير
من الزهد
وقالوا أيضا علامة الزهد الانشغال بطاعة الله وعدم الاهتمام بالمدح أو القدح والزهد محله القلب ومعياره الأساسي
الإنشغال بالله وهي لعمري صفات تحلى بها محمد محمود ولد أحمد لولي رحمه الله حيث أعرض عن بهرج الجاه والمال رغم ماوفرله موقعه في الدولة
والمجتمع من فرص
الرئيس محمد محمود ولد أحمد لولي رحمه الله هو امتداد لسادة صالحين وأئمة خلدهم التاريخ
لا بأس أن نذكر سياسيينا وعشاق المال منا وأنا منهم ببعضم عل وعسى أن يفهموا أن هناك ما هو أهم من الجاه والمال
أول هؤلاء الرجال في تاريخنا الإسلامي العربي هو الحسن بن علي بن أبي طالب الذي ترك السلطة و تنازل عن منازعة معاوية بن أبي سفيان دفعا للفتنة وقد أوردت المصادر التاريخية بنود الاتفاق الذي وقعا وقد سمي عام تنازل الحسن رضي الله عنه بعام الجماعة
وثاني سلاطين المسلمين الذين زهدوا في السلطة الملك الصالح الشاب معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الذي حكم لمدة ثلاثة شهور أو أربعين يوما على قول وكان خلال هذه المدة يطلب من جماعة الحل والعقد من بني أمية أن تعفيه من السلطة ولما حضرته الموت طلب منه بنوا أمية تعيين خليفة بعده فقال :والله ماذقت حلاوة خلافتكم فكيف أتقلد وزرها وتتعجلون أنتم حلاوتها وأتعجل مرارتها اللهم إني بريئ منها متخل عنها وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ليكون الأمر له من بعده فلما كبر للثانية طعن فسقط ميتا قبل تمام الصلاة فتقدم عثمان بن عتبة بن أبي سفيان فقالوا له نبايعك فقال بشرط أن لا أحارب ولا أباشر قتالا فرفضوا فدخل في جملة مناصري عبد الله بن الزبير
ومن هؤلاء السلاطين الزهاد في الحكم القلائل أبو بكر بن عمر اللمتوني الذي تخلى عن السلطة
ومات شهيدا في الصحراء ومنهم
الخليفة العباسي المتوكل على الله والخلفية العثماني مراد الثاني
وهذا الزهد في السلطة بما فيها من جاه ومال لم يعتمده من قادة أمتنا إلا قلة من عباد الله الصالحين الذين سيطر الإيمان على قلوبهم فجل من حكم الأمة الإسلامية والعربية فتن بالسلطة ولذلك قال العرب :
السلطان إما في القصر أو القبر
إن المسار المهني وسلوك الرئيس
المرحوم بإذن الله محمد محمود ولد أحمد لولي منارة ربانية وحالة إنسانية حافلة بالزهد الإيجابي وهي بذلك جديرة بأن يتعرف عليها الموريتانيين وحتى عامة العرب والمسلمين
لتكون نموذجا ومثالا يذكرنا بالله
وبأن الدنيا ومافيها من مال وجاه سراب وأنها مجرد مطية فمن أحسن ركوبها أوصلته بنجاح إلى الدار الحقيقية :بل توثرون الحياة الدنيا ولا الآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف ابراهيم وموسى.