حوار الساعة (1) / الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

في إطار نهج الإصلاح والانفتاح الذي رسمته التلفزة الموريتانية في عهدها الجديد، طلبت مني إدارتها إجراء لقاء حواري عام ومباشر حول ماضي وحاضر ومستقبل البلاد، فوافقت دون تردد، ودونما تحضير! وأشهد أن الإدارة أعلنت لي – ولغيري- أنها لا تريد إلا الحق، ولا شيء غير الحق، وليست لديها محظورات، وأنها تمقت وتعاف اللغة الخشبية والنفاق! فهل من مدكر؟! أو معتبر؟!

محمدٌ ولد إشدو

المختار باب ولد أحمدو: تحية طيبة مشاهدي الكرام، وأهلا وسهلا بكم معنا في مستهل حلقة جديدة من برنامجكم الأسبوعي "حوار الساعة".

ما هو دور المثقفين وصناع الرأي في ترسيخ الممارسة الديمقراطية؟

أين يتجه المشهد السياسي الوطني؟

ماذا عن المشهد الانتخابي الرئاسي المقبل؟

أسئلة ضمن أخرى سنحاول إثارتها بالنقاش مع ضيفنا الليلة، الأستاذ المحامي محمدٌ ولد إشدو. أهلا بكم أستاذ على مائدة الموريتانية.

الأستاذ محمدٌ ولد إشدو: أهلا بكم، وأهلا بالمشاهدين.

المختار باب: الأستاذ محمدٌ ولد إشدو مثقف، مفكر، محام، أي هذه الألقاب تفضل أن نبدأ منها النقاش؟

ذ. إشدو: أفضل الأستاذ محمدٌ ولد إشدو.

المختار باب: إذن نبدأ بالأستاذ محمدٌ ولد إشدو السياسي. في أي تاريخ انخرطتم في العمل السياسي؟ كمدخل.

ذ. إشدو: لقد انخرطت في العمل السياسي انخراطا باكرا جدا عند ما كنت صبيا. ففي إحدى ليالي 1958 رأيت ركبا من رجال الحي يتوجه إلى صندوق انتخاب في مكان آخر - ولم يكن في الحي صندوق- للتصويت في انتخابات نعم ولا (Oui Et Non) فأثار هذا اهتمامي، وكنت أسمع الحديث عنه أحيانا، لكني أفهمه كما يفهمه البسطاء من الناس يومئذ: Oui Et Non صراع بين الإسلام وبين الكفر. ووجدتني أنظم أرجوزة كانت أول إنتاج أدبي لي. لا أتذكر الآن منها إلا بيتين:

واغفر ذنوبنا ومن يقول: لا ** وهب لآل "ويّ" سوءا وبلا.

المختار باب: ما هي الأسس التي بنيتم عليها هذا الموقف؟

ذ. إشدو: نفس الأساس الذي ذكرته لكم. صراع بين الإسلام والكفر. إذ أقول:

ولاؤنا منصوبة هنا على ** أن لا إله غيره جل علا.

يومها كان الوعي السياسي المعطى في منطقة الگبله التي ترعرعت فيها تتجاذبه أهواء:

- الدعاية المغربية التي تتخذ من الإسلام واجهة، وتغذيها مكانة وشعبية الزعماء الثلاثة الذين لجؤوا من المنطقة إلى المغرب؛ وهم الأمير محمد فال ولد عمير، والزعيم أحمدو ولد حرمه، والوزير محمد المختار ولد اباه، وتدعو إلى التصويت بلا.

- والدعاية المحلية التي تتشبث بفرنسا مرحليا وتدعو إلى الاستقلال الداخلي والتصويت بنعم.

هذا الانخراط السياسي الباكر كان عفويا جدا، وكان من صبي. لكن الانخراط السياسي الحقيقي كان سنة 1962 عند عودتي من تونس، وأسبابه واضحة جدا. فقد قيض الله لهذه البلاد مجموعة من الرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقرروا إنشاء دولة تجمع الشمل من لا شيء تقريبا! وسموها الجمهورية الإسلامية الموريتانية.

لقد حضرت شخصيا إعلان الاستقلال هنا في انواكشوط ليلة 28 نوفمبر 1960 ونظم الاحتفال بهذه المناسبة في كوخ (امبار) غرب الرئاسة الآن، مشيد باللبِن ومسقوف بالزنك، وجدرانه مكسوة بالحرير الأخضر والأصفر على لوني العلم الوطني.

المختار باب: وأنتم آنذاك حضرتم من طرف من؟ الطلاب مثلا؟

ذ. إشدو: لا لا، جئت من تلقاء نفسي. كنت في اندر، وحين علمت بالأمر المزمع قدمت هنا - نظرا لطموحي المبكر- مع أحد سائقي الإذاعة الوطنية الموريتانية يدعى گي، ضمن رتل من سيارات DS متجه إلى انواكشوط من أجل استقبال الضيوف هنا، وجئت فحضرت حفل الاستقلال وعدت مع نفس السائق الصديق، وأنا مراهق.

المختار باب: هل كنتم حينذاك تميزون بين الأغلبية والمعارضة، ومع أيهما كنتم؟

ذ. إشدو: لا لا.. لا أميز يومئذ بين المعارضة والأغلبية. الموجود آنذاك من المعارضة هو حزب النهضة، وهناك أغلبية هي المختار وحكومته. ونظرا لوجودي في اندر فقد وجدت جريدة "موريتانيا الجديدة" وكان يصدرها المرحوم عبد الوهاب ولد الشيگر، فسرني إنشاء دولة موريتانية، وسرني نبأ تشييد عاصمة لها، وسرني أن تنشأ شركة للمعادن. ومما قرأت فيها أن الرئيس المختار ولد داداه (رحمه الله) ووفدا يرافقه من بينه الأستاذ عبد الوهاب ولد الشيگر رحمه الله زاروا ضريح القائد التاريخي ببكر بن عامر.

المختار باب: حتى الآن لم تذكر لنا دور الشباب – وأنت شاب آنذاك- ما الأساس الذي دعيت على أساسه؟ أم كنت متفرجا فقط؟

ذ. إشدو: لست مدعوا، وإنما جئت متفرجا وصغير السن جدا.

قرأت في الجريدة زيارة الوفد لضريح المرحوم أبي بكر بن عمر والنشيد الذي كتبه الأستاذ عبد الوهاب الشيگر بتلك المناسبة فاستحسنته أيضا. يخاطب أبا بكر بالقول:

يا بانيَ المجد مـــــهلا ** يكفيك هـــــذا الخلود

كم جُبت وعرا وسهلا ** تقفو خـــطاك الجنود

شنقيط نبني ونعـــــلي ** سيــــــاسة واقتصادا

تاريخنا العدل يمــــلي ** دستورنا القسط شادا.

ومن خلال ذلك كله صرت أقرب إلى الدولة المزمع إنشاؤها، وسبق أن طالعت عددا من جريدة النهضة لكني لم أنتم إليها عاطفيا، وإن كان الحي الذي أنتمي إليه لديه في البادية صندوق للنهضة وينتمي إليها من خلال مناصرته للإسلام وللأمير محمد فال ولد عمير الذي كان يومئذ لاجئا  في المغرب! وكان شعار النهضة المكتوب على بطاقة عضويتها هو الآية الكريمة {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}.

المختار باب: كان هذا في بدايات الدولة.. هل تتذكرون الآن بعض النجاحات التي يناسب ذكرها المقام؟

ذ. إشدو: لا أذكر بعض نجاحاتها؛ بل جميع نجاحاتها. فقد استطاع الرعيل الأول الذي حدثتكم عنه بحكمته، إنشاء دولة من لا شيء، وفي فترة إعلان الاستقلال هنا لم يكن في العاصمة أي شيء مما ترون الآن سوى الكوخ (لمبار) السابق ذكره أو ورشات صغار. وبعد ذلك بشهر أو اثنين قرر السيدان المختار وسيد المختار (رحمهما الله) القدوم إلى انواكشوط مهما يكن. يقول الرئيس المختار في كتابه "موريتانيا على درب التحديات": "لم نأت لإقناع الفرنسيين ولا السنغاليين بأن لنا عاصمة؛ بل لإقناع أنفسنا أوّلاً بأنا دولة ولنا عاصمتنا ولننتقل من اندر".

أنجزوا ما استطاعوا بما هو متاح لهم، لكن ما أنجزوه كان استقلالا شكليا بلا مضمون.

لا مضمون اقتصادي سوى الشركة التي اعتمدوا عليها، ولا مضمون سياسي وإن كان لهم عَلَم. عندما بدأنا المعارضة الجديدة 1962 كنا نتندر بقول الرصافي:

عَلَمٌ ودستور ومجلس أمة ** كل عن المعنى الصحيح محرف.

ويقوله في قصيدة أخرى:

فما شأن ذياك السفير الذي له ** على الجانب الغربي قصر مشيد؟!

مضمون الاستقلال كان غائبا إذن. ثم إن جنين الدولة الذي رحل به الرئيس المختار من اندر إلى انواكشوط كان متناقضا مع المجتمع الموريتاني البدوي العالِم المسلم، لكونه جنينا ناطقا بالفرنسية ولا يرى فيه المجتمعُ نفسَه!

ففي 1962 بدأنا نواجه هذه التحديات. وقد وجدتُ هنا مجموعة من الشباب يكبرونني؛ منهم المرحوم عبدو ولد أحمد الأمين العام لنقابة المعلمين العرب آنذاك، ومنهم الأستاذ سيد أحمد ولد الدي، والأستاذ محمد المصطفى ولد بدر الدين، ومجموعة من الشباب الساعين إلى أن تنال اللغة العربية مكانتها، لكن اهتمامهم كان نقابيا لا سياسيا. وكانت لديهم جريدة تسمى "الواقع".

المختار باب: هل كانت الجريدة الأولى آنذاك؟

ذ. إشدو: نعم. وكانت النهضة قد اندمجت في الحزب الحاكم بناء على قرار الطاولة المستديرة المنظمة حينذاك. فكان لا بد من إنشاء شيء جديد. نحن مجموعة من الشباب ارتأينا أن نأتي بالجديد المنشود. من تلك المجموعة الأستاذ أحمدُ ولد عبد القادر، والأستاذ فاضل ولد الداه، والأستاذ محمد المصطفى ولد بدر الدين، والأستاذ محمد المحجوب ولد بيه..

المختار باب: أي أن هذه هي جماعة الكادحين المؤسسين؟

ذ. إشدو: لا، هذه جماعة بدأت قومية عربية تتجه أساسا، صوب فكر الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان وقتها مهيمنا في العالم العربي. 

المختار باب: ناصريون..

ذ. إشدو: نعم ناصريون!

أما الكادحون فلهم حكاية أخرى، وإن كانوا امتدادا لجماعة القوميين العرب!

20. مارس 2019 - 17:50

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا