"ينشر في حلقات أيام الاثنين والخميس"
توطئة: ما العمل؟
للتاريخ أحيانا نزوات مفرطة في الشراسة. ستة عقود مضتْ من عمر الدولة الموريتانية كإحدى الدول الموروثة عن الاستعمار؛ مضتْ في شكل علامة استفهام كبيرة لا يبدو أنها ازدادت مرحلة بعد أخرى إلّا تضخّما وإلحاحا. فكأنّ مخزونا ما من السذاجات الأولى أو من أرصدة القدرة على الانتظار المستكين قد سمحَ ببقاء السؤال مُعَلَّقاً رغم تضاعف إلحاحه ورغم حجم التحولات الخام.
عندما نشأتْ الدولة الموريتانية كان عددُ سكانها يزيد بالكاد على نصف مليون نسمة يعيشون باستثناءات محدودة في شكل مجموعات من البدو الرحّل أو شبه الرحّل، مجموعات معزولة اجتماعيا عن بعضها البعض وموزّعة على وحدات بدوية غالبا أو قروية نادرا منتشرة على مساحة تزيد على مليون كيلمتر مربّع.
ورغم وجودِ تأثيرات جدّية للحضور الأوربي خلال القرون الأخيرة، تأثيرات غيرِ مباشرة وغالباً غير قصدية، في التحولات الاجتماعية المحلّية، فإنَّ الأغلبيةُ الساحقة من السكان ظلتْ مفارقياً قبلَ ما سُمّي بالاستقلال معزولةً ذهنياً عن العالم وتحولاته الحديثة والمعاصرة، تعيشُ في فضاء لا يبدو "ظاهريا" أنه معنيٌ بطفرات التحديث الرأسمالي التي اكتسحتْ المعمورة.
كانت، قبلَ "الاستقلال"، تعيشُ زمنيتَها الخاصة التي ظلّتْ عصيةً على الاختراق الجدّي رغم تعاقب أنواع الحضور الأوربي (خلال أكثر من أربعة قرون) ورغم حيثيات حضور السلطة الاستعمارية التي بدأتْ بسْطَ نفوذها كما هو معروف على مراحل لاسيما منذ بدايات النصف الثاني من القرْن التاسع عشر .( وأخذ المدّ بعدا جديداً بعد مؤتمر برلين لسنة 1884- 1885 الخاصّ بتقسيم إفريقيا بين القوى الاستعمارية (تمّ إعلان موريتانيا مستعمرة بشخصية قانونية قائمة في حدودٍ تختلف جزئياً عن الحدود الحالية سنة 1920 وتمّ إعلان بسْط السيطرة سنة 1934).
وظلّ سكانُ البلد يعيشون غالباً إلى أواسط السبعينات من القرن الماضي باقتصاد تقليدي كفافي مستقلٍّ بنسبة كبيرة عن طفرات الرأسمالية العالمية بالرغم من أنّه في العمق مرتبط ٌ بها، عن بُعد، في مستويات معينة.
وبفعل العوامل المُلازِمة تقليدياً للتخلّف التنموي (ارتفاع نسبة الولادات ومحدودية أمل الحياة إلخ.) تجدّدتْ الأجيالُ بسرعة وتضاعف عددُ السكان منذ ما سُمي بالاستقلال سبع مرات.
وإنْ تكنْ الأزمةُ العميقة التي تعانيها تصاعدياً التربيةُ والتعليمُ الحديثان والعتيقان معاً هي أزمة متفاقمةً برْكانياً (نسبة الأمية الأبجدية مثلا تصل راهنياً حسب الأرقام المعلَنة إلى أكثر من 36 بالمائة) فإنّه مع ذلك يبدو من السهل إثباتُ أن أكثر من ثلثي السكان أصبحوا يستفيدون من بنسبة مبنيِنة اجتماعياً ومعرفياً من وسائط التواصل الجديدة والفضاءات الوسائطية المرتبطة بها.
بلْ إن أزمة التعليم قد زادتْ، تعويضياً، تأثيرَ الإعلام الجديد وتقنياته. وتُضاعف الطبيعةُ "النيو بدوية" للتجمعات السكانية القائمة وحالتُها التي تتميّز بأنّها انتقالية ومعطّلَة في آن وتواضعُ المتوسّط العام لأعمار السكان (حدود 19 سنة للذكور و21 للإناث) مركزيةَ العلاقة مع الوسائط التواصلية الجديدة وتأثيرَ التطور الطفروي لهذه العلاقة.
ويندرج هذا التحولُ الكبير ضمنَ خريطة تحولٍ اقتصادي أكبر. فقد تآكل الاقتصاد التقليدي بنسبة شبه كاملة ولم يولد اقتصادٌ انتاجي بديلٌ بنسبة تُذكر. وتفكّكت تبعاً لذلك البنى الاقتصادية التي كانت تقف عليها الروابط والانتماءات التقليدية دون أن تنشأ روابط وانتماءات جدّية مدنية ودولتية بديلة. وهو ما تضافر من جهة مع دينامية الانكفاء على الهويات العظامية ليس كما كانت قبل الأدْولة ولكن ككيانات "زومبية" تتمّ وهمياً إعادة إنتاجها أو اختراعها. وهو ما تعاضَدَ كذلك، من جهة ثانية، مع السيطرة المعيارية للثقافة الرأسمالية في بعدها الاستهلاكي الحصري.
عَنٍيَ ذلك، بين أشياء أخرى، ظهورَ حجمٍ كبيرٍ ومتفاقمٍ من الحاجيات والطموحات الاستهلاكية يوازيه عجزٌ بديهي عن إمكانية تلبية هذه الأخيرة شكل طبيعي في حدودها الدنيا أمام تكرّس وجودِ دولة ريعية بلا ريع. أيْ بريعٍ جدّ محدود، يعتمد وجودُها على احتكاره وتوزيعه امتيازياً. وذلك في الوقت نفسه الذي أصبحتْ الثقافة الاستهلاكية عنصرا مركزيا في "الاخلاقيات" الاجتماعية وفِي الهرميات الاعتبارية المرتبطة بهذه "الاخلاقيات".
وتبعاً لذلك لم تولد مواطَنة جامعة وإن كان الوجودُ الاجتماعي القائم مبنيَـناً في مجْمله عبر الصراع على الريع الدولتي المحدود. ولم يبق بهذا المعنى من الهويات الجزئية التقليدية في العمق إلا وجودُها "الزومبي" عبر إعادة استثمارها المفرطة في الصراع التحاصصي الزبوني، أي لاكتساب الامتيازات الدولتية المحدودة، أمام غياب الحقوق.
الحياة العمومية تعيش إذاً وضعيةً نفسية جماعية لها اسمان: عُصابية التوازنات الموارِبة الهشّة أيْ التي تقفُ على ما يشبه الألعاب البصرية أكثر مما تقف على واقع اقتصادي اجتماعي صلب؛ وانفصامية الانتماء مبدئياً إلى فضاء مواطني مع وقف التنفيذ ومصلحياً إلى هويات جزئية ميّتة ذاتياً بإفراط وحيّة وظيفياً بإفراطٍ مُواربة.
قدْ لا تعني الدولة الموريتانية استثناء مطلقاً في الدول الموروثة عن الاستعمار ولكنها بالمقابل قد تعني إفلاسا لأحد أنماطِ هذه التركة.
ما العمل؟ وما العمل مع سؤال ما العمل؟ نستعيد طبعاً هذين السؤالين الكلاسيكيين من تقليدٍ معروفٍ طويل ومكرّر بإسهاب منذ أكثر من قرن. ولكن بالرغم من كلّ ما قالته إيديولوجيات القرن التاسع عشر عن موت سؤال الفهم (تفسير العالم حسب الصيغة المشهورة) وإلحاحِ سؤال العمل (تغيير العالم بدل تفسيره)، فإن مطلب الفهم قبل الفعل (الرأي قبل الشجاعة، حسب صيغة منافسة أشهر وأقدم) يبدو الدرسَ الأهمّ الذي قدّمه القرن العشرين وقدّمتْه بإلحاحٍ أشدّ بدايةُ القرن الحالي.
بل إن ثَوْرِيَّة السؤال "ما العمل" الذي دشّنَ القرن العشرين بل ودشنَ قبْله إعادة طرح سؤال الأنوار في أواخر القرن الثامن عشر (غداة الثورة الفرنسية) لم يعد اليوم جدّيا، بعْد كلّ تجارب الدول الموروثة عن الاستعمار في العالم الثالث، إلا باعتباره أولاً سؤال الفهم.
بديهيٌ أنّه لم يعد اليوم ممكناً في بعض ما كان يعرفُ بدول العالم الثالث، خصوصاً تلك التي بقيتْ كموريتانيا رهينة التساؤلات التنموية الأولى للحظة ولادتها، رغم كل التقلبات التي عرفتْ، أن ْنطرح سؤال العقلنة والتحديث الاقتصادي والاندماج الاجتماعي والعدالة والرعاية وتوفير الحقوق المدنية وسيادة القانون ومدى مشروعية الأخير، بنفس الطريقة التي طُرحتْ بها منذ ستين سنة.
يبدو راهنياً وكأنّ تصور وجود الشعب في حدّ ذاته محلّ إشكال. بعبارة مرادفة، اتّضحَ أن كون "الدولة تصنع الأمّة جدلياً"، كفرضية كانت فعلا في صلب تشكّل كثيرِ من الدول الوطنية، تواجه في الحالة الموريتانية، والحالات الشبيهة، مأزقا استثنائياً.
اتّضحَ أكثر فأكثر أنّ وجودَ الدولة ككيان قانوني مجرّد غيرُ كاف لوجود شعب، بل قد يمثّلُ عائقاً عملياً أمام انتقال السكان من وضعية الحشود إلى وضعية الشعب حين تصبح الدولة عائقاً أمام دينامية الاندماج الاجتماعي.
الدولة بهذا المعنى قد تكون مفارقياً معيقة لتشكّل وجود كيانٍ يتجاوز مستوى الأرخبيل البشري الموزّع في الفضاء الترابي الدولتي على مجموعة من الكيانات التحت سياسية أو التحت دولتية.
بهذا المعنى أيضا فإن ميلاد الفضاء العمومي تَرَافَقَ منذ ستين سنة مع خوصصته بل مع تفكيكه ومنع عقلنته. عَنيَ ذلك تزامنياً أن مفهوميْ الحقّ والعدالة العامين يسقطان، لنفس الأسباب، مع ظهورهما من خلال مسلسل الأدولة، في الفخ المناهض للأخيرة أي في فخِّ الخوصصة وشبه الإلغاء للوازع العمومي كمرادفِ لحقوقٍ وواجباتٍ مشاعة.
وتبعاً لذلك فمن العسير نفيُ وجود إشكالية انتروبولوجية خاصة واستثنائية بفضاء ترابي كالفضاء الموريتاني فيما يتعلق بمعضلات التدبير السياسي العمومي وفكرة الشعب وفكرة الحرية الفردية إلى آخره. أيْ أنّه بغضّ النظر عن أنّ كلّ بلدِ يواجه هذه المعضلات بخصوصية معينة، فإنّه من المحتمل جدّا أنّ لها أبعاداً استثنائية في فضاء جغرافي اجتماعي كالفضاء الموريتاني ظلَّ تاريخياً عصيا على المدْيَنَة كما ظلَّ، للأسباب نفسها أو لأسباب أخرى، عصياً كذلك على كلّ مشاريع الأَدْوَلَةِ والمركزةِ السياسية.
ولكنْ السؤال الملحّ حالياً في الحالة الموريتانية ليسَ في صدور هذه المعضلات عن تضافرٍ جدلي بيْنَ العوامل الأنتروبولجية والمشروع السياسي في مختلف مراحله ولكنْ عن مدى قدرة المشروع السياسي على ترتيب علاقته مع العوامل الأنتروبولجية.
لنُعد إذاً طرح السؤال: ما الفهم المُمكن، أي الفهم المُمَكِّن من الفعل العمومي بعد ستين سنة من فشل محاولات العقلنة والتحديث، أو، بعبارة أكثر تشاؤما، من غياب أيّ محاولة جدّية لتحقيق العقلنة في فضاء عام وُلِد مشلولاً ويبدو مرحلةً بعد أخرى أكثر اجتراراً لأسئلته الأولى؟
بكلمات أخرى: هلْ تمْكنُ إعادةُ قراءة التركيبات المؤسسية والمعيارية التي ميَّزتْ مسار الأدولةِ موريتانياً وكرَّستْ فشله أو شبه فشله؟
طبعاً هنالك إشكالٌ منهجي معروفٌ ومشتركٌ بين معظم بلدان العالم الثالث يتعلّق بتوكئها على قواميس مفاهيمية أنتجتْها مساراتٌ مغايرة لمساراتها الخاصّة. فهي بلدان غير مدروسة إلا بشكلٍ محدود وتستخدم جهازا مفاهيمياً أنتجتْه فضاءات مختلفة وجدّ مدروسة. أي أنها بلدانٌ تستخدم أجهزة مفاهيمية لمواجهة واقع محلي لا تصدر عنه لا نظريا ولا عملياً هذه المفاهيم.
فالمعايير القانونية والسياسية الحديثة في مثل هذه البلدان هي إما مسوّغة عبر مصادرات على المطلوب فوق المساءلة المنطقية والتاريخية وإمّا مسوّغة عبر إحالات على مسارات خارجية محسوبة، عن حقّ أو عن وهم، على بلدان "النموذج".
غير أن استدعاء أدوات مفاهيمية لمواجهة واقعٍ ليست بالضرورة صادرة عنه لمْ يعْنِ، في التجارب المعاصرة في أماكن كثيرة في العالم، أنها بقيتْ بدون مفعول ميداني ومعياري. فهذه الأدوات هي أساساً سلعٌ مستوردة لتخلقَ، فعلاً أو مجازا، الواقع المحلي الذي لم تصدر عنه. ولكنها كثيراً ما دفعت، لهذا الأسباب ولغيرها، إلى حداثة مشوهَّة.
فضلا عن ذلك، فإنّ الصعوبة الخاصّة بتوظيف مفاهيم غير منسجمة في المسار المحلي الموريتاني لها دلالة إضافية من حيث يُعتقدُ غالباً، لدى بعض الدّارسين، أن الغرب الصحراوي ظلّ تاريخياً "منشأً قبْلياً" للمدينة وللدولة و"طارداً" لهما إلى فضاءات أخرى كانت قابلة أكثر، افتراضا، لتطويرهما أو/ولاستقبالهما.
هل عنيتْ الدولة الكومبرادورية، في الحالة الموريتانية، تسييجا أو كبتاً لدينامية تاريخية كانت تجسّدها، افتراَضاً، الثنائية الخلدونية التي تعني في مستوى من مستوياتها عصبيةً جامحة ودامجة، قادمة دورياً في مراحل مدّها التعصيبي من القاعدة الخلفية الرعوية الصحراوية المحصّنة بظروفها الطبيعية، كما تعني في السياق نفسه مرحلةَ تحقّقِ الدولة كامتدادٍ شمالي متوسطي للعصبيات القادمة من الجنوب والمندمجة تصاعدياً في عصبية جامعة عبر الدورة التشكّلية التي "تتأدول" قبل أن "تدول" شمالاً؟ أمْ أن هذه الثنائية لم تزددْ إلا وجاهةً ولكن بصيغة انكماشية أو تآكلية في فضاء رملي مغلقٍ تَغرقُ فيه الممكنات و"تدول"؟
وبغض النظر عن وجاهة التفسيرات المقدّمة في هذا السياق فإن هذه الصعوبة التي تَصدر عنها هذه الأسئلة جدّ ملموسة. وتظهر بشكلٍ جلي حين يتعلّق الأمر بفكرة المواطنة فيما يتجاوز محْضَ تسجيلها القانوني الفوقي إلى مستوى تجسّدها الفعلي في الضمير الفردي وفي أخلاقيات الانضباط والانعتاق الجماعيين كشرْطٍ لتجسدهما سلوكاً وممارسةً في المؤسسات الاجتماعية السياسية.
هل يعني ذلك بشكلٍ حاسم أن الدولة فشلتْ في أن تكون التعبير السياسي الوجيه عن الكافّة، أعني في أن تتجلّى مجتمعا سياسياً؟ بعبارة أخرى هل إن الفشل السياسي الأكبر في موريتانيا هو في أنّ فكرة الشعب وفكرة المجتمع المدني ظلّتاً لفظيتين بنسبة عالية وظلّتا، تزامنيا، تعبيرا موارباً عن إعادة استثمار "الهويات" الجزئية الميتة ذاتيا والحية وظيفياً، أي عن استدعاء الهويات "الزومبية"؟
هل يعني ذلك في المحصّلة أنّ مفرداتٍ كالشعب وكإرادة الشعب هي مفردات إنشائية لا تحيل إلى واقع ملموس؟ وهو ما قد يعني، استنتاجاً، انتفاءَ الشروط الموضوعية لظهور المواطنة فكرةً وممارسةً؟ أمْ هلْ أنّ هذه الأسئلة نفسها غير وجيهة حين يتعلّق الأمر بنمطٍ من الدولة الكومبرادورية التي لم يحملْ مشروعُها أصلا، من حيث هي كومبرادورية، غاياتٍ كتلك التي تفترضُها هذه الأسئلة؟
بصيغة بديلة، هل فشل مشروع الدولة الوطنية في غربٍ صحراويٍ قيلَ عنه منذ قرون إنه ظلّ دوما عصيا على الأدولة؟ وهل كان فشله لأسباب تاريخية اجتماعية "حتمية"؟ أم لأسباب جيوسترتيجية تتعلق بطبيعة رسمه "الجيني" أو الوجودي الذي صيغ أواخر الخمسينات من القرن الماضي؟