آمريكا بين شرعنة الحرية وازدواجية المعايير / المهدي بن أحمد طالب

بين الفينة والأخرى تنزل بأمتنا الإسلامية حوادث يشيب منها الولدان ، ويعتصر القلب لها كمدا وحزنا ، و تخر منها الجبال هدا ، فمرة رسوم كاريكاتيرية تستهزئ بنبينا ــ صلي الله عليه وسلم ــ ، ومرة يُستهزئ بحجاب العفيفات من نسائنا ، ومرة يحرق المصحف الشريف ويقدم للخنازير لتأكله على مسمع منا ،

 والأدهى وأمر أن يجسد أحد أقباط المهجر في الولايات المتحدة ( فِلما ) عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين ، يجسد فلما تفوح منه رائحة الحقد !

لاشك أن التوقيت الذي اختير لبث حلقاته يضع نقاط استفهام متتالية ، سواء الزمانية منها كالحادي عشر من سبتمبر وفي يوم الثلاثاء ، أو الشخصية كتمثيل الأقباط له  ولماذا شخصية محمد عليه  الصلاة والسلام بالذات ؟ أو المكانية كالولايات المتحدة الأمريكية !

إن جس نبض الشارع الإسلامي تحقق الولايات المتحدة وحلفاؤها منه مزيدا من شرعنة الجرائم في عالمنا العربي والإسلامي ، وهو البوصلة الوحيدة التي يستفز الناس بها ، وحين تضعف القضية إعلاميا عندنا يفكرون في ما هو أشد منه تأثيرا ووقعا على القلوب .

إن أمتنا تضعف شوكتها وتذبل أحيانا لكنها لا تموت ، وهذا هو الدافع القوي الذي يجعل الغرب يضعون حسابات لردة فعلنا تجاه أية قضية من قضاياهم المشئومة التي يثيرون بها أحاسيسنا .

 لكن علينا أن نحاسب الغرب بمنطقه وقوانينه وتشريعاته ، فهي حجة عليهم ووبال لكل ما ينتجونه من قضايا .

إن مفهوم الحرية في الحضارة الغربية لا يعني أن تقول ما تشاء لمن تشاء فحسب ، وإنما يعني كذلك تكسير الحواجز الدينية والنفسية أمام معتقديها ومتبنيها اجتماعيا ، لإنتاج مجتمع منحل أخلاقيا لا يعرف معروفا و لا ينكر منكرا .

والحكومات الغربية عموما تكيل للعالم الإسلامي بمكيال  التطفيف ، فهي المنادي الأول بالديمقراطية وحرية التعبير وفي نفس الوقت تقف هذه الحكومات مع المجرمين والمختلين عقليا وتشجع ما ينتجونه من أفكار ، ومثل هؤلاء يجدون مضايقات في عالمنا العربي والإسلامي لا مصادرة لآرائهم وإنما محافظة على آراء العقلاء .

ثم ما فائدة حرية إعلامية تصدر من أفراد ــ حسب زعمهم ــ ترجع على مؤسسات الدولة بالخراب والدمار ، أليس من حق باقي المواطنين المحافظة على مشاعرهم وانتماءاتهم الدينية أم أن المشاعر نفسها تبقى حبيسة في صدور أصحابها حتى يعبروا عنها حسب وجهات نظرهم وطريقتهم الخاصة ولو على حساب الدولة والمجتمع ؟ 

إن سياسات الغرب الاعلامية وحرياته الفردية ترجع في المقام الاول إلى ما يوافق السياسات الخارجية ويصدر عنها ، ورسالته الخارجية أكثر عمقا من سياساته الداخلية ، فهذه وزيرة الخارجية الألمانية تكرم رساما "دانماركيا" من أجل أبلاغ رسالة مفادها أننا نتحكم في الإعلام ونوجهه حسب رغبتنا وعلى الطريقة التي نريد إيصالها .

وكذب من زعم أنك في الغرب يحق لك التعبير عن رأيك إذا كان ذلك يخالف سياسة وزارات الخارجية وهناك نماذج على ما أقول :

حين كتب أحد الكتاب الفرنسيين كتاب ( الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية ) حكم عليه بغرامة عشرين ألف دولار وهو ما أثار موجة غضب واستغراب من عنجهية حرية الرأي في الغرب .

وكتاب هتلير ( كفاحي ) يحرم تداوله في ألمانيا ، بل إن التحية والسلام بشعارات النازية يستحق صاحبها السجن والغرامة المالية ، وهذا الكتاب رغم جنون صاحبه واختلاله العقلي يوحي بأن السياسات الغربية ليست أقل منه جنونا حين تُنتج أفلاما مُسيئة وترخص لبثها على أراضيها .

وحين كتب أحد الكتاب الأمريكيين كتاب ( العين بالعين ) قام بسحب النسخ الألمانية وحرقها خوفا من القوانين الألمانية التي تجرم نكران محرقة الهوليكوست .

وفي النمسا يمنع القانون إنكار وجود غرف غازية استخدمها النازيون ضد اليهود إبان الحرب العالمية الثانية وهو الأمر نفسه في اليابان .

والقانون الدانمركي يمنع التشهير بأي شخص مهما كان وحتى إن رفعت دعوى ضد أشخاص بتهمة الشذوذ الجنسي يعرض صاحب الدعوى بالسجن والعقوبة .

وفي ابريطانيا حين عزم أحد المختلين عقليا ببث فلم جنسي عن المسيح ــ عليه الصلاة والسلام ــ قامت الدنيا ضده ( وحُق لها أن تقوم ) ونادا باباوات الكنسية في الفاتيكان بمعاقبته فورا تحت قانون سب المقدسات .

والغريب في الأمر أن المعتوه سلمان رشدي حين كتب ( آيات شيطانية ) احتضنته ابريطانيا ودافعت عنه أمام المحاكم بحجة أن قانون سب المقدسات خاص بالمسيحية .

وحين أنتج أحد الباكستانيين فلما عن حياة سلمان رشدي مُنع تداوله في ابريطانيا بحجة الإهانة.

وفي فرنسا حين قام أحد الأساتذة الجامعيين بتكذيب محرقة الأرمن على يد العثمانيين كانت المحاكم له بالمرصاد ، فسجن وغرّم بمجرد التعبير عن رأيه الشخصي على اعتبار أنه متخصص في تاريخ الدولة العثمانية .

وفي سويسرا منع تداول كتاب ( الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية )  وحكم على صاحبه بالسجن أربعة أشهر .

وفي إيطاليا منع الفلم الآمريكي ( الإغراء الأخير )الذي يهين شخصية المسيح ــ عليه الصلاة والسلام ـــ وقُدم صاحبه للمحاكمة ـــ وحق ذلك ــــ  ، على اعتبار إهانة مشاعر مسيحي روما .

أما الولايات المتحدة الأمريكية ( المتعجرفة ) فقد منعت بث أكثر من فلم يجسد بطش الصهاينة في فلسطين وخاصة فلم ( جذور غضب المسلمين ) علما بأن صاحبه كاتب ابريطاني يعد من أحسن صحفييها وإعلامييها .

وحين قامت أحدى الممثلات الأمريكيات بتمثيل فلم مسرحي عن بطش الولايات المتحدة في العراق مُنعت وصودرت محتوياتها.

وحين كتب أحد الضباط الأمريكيين كتابا عن الطريقة التي قتل بها بن لادن مُنع الكتاب من الترخيص بحجة أمن الدولة وسياساتها الخارجية .

إن عشرات الكتب والمجلات والمواقع تزخر ببيان عنجهية السياسات الغربية وخاصة السياسات الإعلامية تجاه قضايا حرية التعبير والرأي .

صحيح أن الغرب أوقف بعض الأفلام التي تتهم نبي الله ـــ المسيح عليه السلام ــ ليس حبا ولا انتصارا له وإنما طاعة عمياء لباباوات الفاتيكان .

إن هذه النماذج تجسد مدى اختلال التوازن بين ما يسمى الرأي والرأي الآخر ، وشعارات الحرية شعارات فارغة المحتوى ضعيفة المنهج والمبنى ، فهم وإن رخصوا لمثل هذه الإساءات  والتافهات كبتوا أفواها أخرى نادت بحرية العالم العربي وحرية اختيار مُواطنيه .

إن سياسة الوصاية الإعلامية على عالمنا العربي ووصفها أحيانا بالتطرف تظهر عور وزيف الإعلام الغربي .

لماذا مصادرة آلاف الصحف وتكسير أقلامها بحجة مُعاداة السامية ( الصهيونية ) إن كنتم حقا أصحاب حريات وحقوق ؟ ولماذا تغلقون القنوات التي تخالفكم الرأي في ليبيا وسوريا  أم أن حرية الرأي تعني الانبطاح للغرب وسياساته الخارجية ؟

على شعوبنا العربية أن تعيد صياغة تعاملها مع الغرب وخاصة النواحي الاعلامية ، فلا يمكننا أبدا أن نعيش في ثنائية اختلال التوازن ولا يمكن لأمتنا أن تنهض على أساس هش المعنى والمبنى .

وتمثيل الأقباط أخيرا للفلم المسيء للنبي محمد عليه الصلاة والسلام وزوجاته ــ رضي الله عنهن ـــ الهدف منه أساسا هو إثارة الرأي العام والشغب والفوضى في الدول التي أصبحت تنعم بما يسمى الربيع العربي ليس إلا !

ولاشك أن ردة الفعل والصدمة كانت قوية على أوساط الشباب الذين تفاجئوا بخيبة أملهم تجاه  الحرية الغربية ومدى تفاهتها حين تنشر مثل هذا .

والمؤسف حقيقة هو خيانة الشعوب من قبل حكامها الذين بدئوا في التعازي القلبية والتنديد بمقتل السفير الآمريكي في "بنغازي" بدل الشجب والإنكار للتصرف الغربي ومساندته لهؤلاء المعتوهين .

إن رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم عجز كفار قريش من أن ينالوه بسوء في حياته رغم تسخيرهم لكل إمكانياتهم تجاهه ، وسخرية هؤلاء وتمثيلهم لشخصية خيالية في أذهانهم لا تزيد أتباعه المؤمنين به إلا تمسكا بهديه وبسنته عليه الصلاة والسلام .

علينا معشر المسلمين أن نتحلى بروح المسؤولية وأن لا ننجر إلى ما يريده الأعداء من التشرذم والتمزق وأن نناضل عن قضيتنا بروح رياضية بعيدة عن التصرفات الصبيانية من تكسير للزجاج والنوافذ وحرق للسيارات والإطارات فلن يضيع حق ورائه مطالب .

16. سبتمبر 2012 - 20:40

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا