لهذه الأسباب ولدت "ساهلة" ذكرا / محمد افو

أنتم لا تعرفون ساهلة 
إذا لابأس بالحديث عنها فالبقر يتشابه إلى درجة تحتاج أحيانا لنزول الوحي ووساطة الأنبياء .
ليس من السهل أن يتحدث رجل من أهل " الشرگ " عن بقرة وذلك لأسباب تتعلق بضيق باع اللغة،  لكن قصص البقر تستطيع أن تثقف نفسها كيفما شاءت وتتقولب وفق الذائقة الكونية حتى لكأنها من تضاريس الثقافة العالمة والعالمية والمعولمة. 

فعلا هي بقرة صفراء فاقع لونها وكانت تسر الناظرين قبل يوم ولادتها ذكرا. 
تشبه ساهلة عامة المجتمع الموريتاني، فهي تمتلك عادات غريبة ومتناقضة وعصية على الفهم والتحليل. 
فعندما يوفق قطيع العجول في التحايل على اسياده ويلتقي بأمهاته في الفيافي، لا تقبل ساهلة أن تخون ملاكها فتمنع بنتها من رضاعتها حتى تقف حيث تحلب كل يوم. 

وعند حلبها ترفض التقييد بصرامة، لتحتفظ بحرية التحرر من الحلاب متى شاءت. 
قد تغافلك في أي لحظة بسلوكها الوحشي كما لو كانت بنت فلاء لا عهد لها برؤية البشر. 
وقد تتركك حتى توقن بأنها تستمد أخلاقها تلك اللحظة من مالكتها ( أمي) فتحلب هنيئا مريئا سهلا منسابا دفاقا حتى تظن حليبها يأتي كالحسنات، بفعل نيتك كما بفعل عملك. 

طوال حياتها كانت تلد الإناث، حتى عامها الأخير حيث قررت أن تتغير كما تغيرت الأحوال حولها. 
 بدنها رشيق لدرجة لا تتأثر بالجدب ولا بالرخاء، وهذا ما جعلها قوية صامدة في وجه كل التقلبات مثل زهاد المتصوفة، لا يموتون من الجوع ولا يأكلون كما تأكل الناس. 
وفي فصول السقيا اليدوية تأتي متمهلة للحوض في كامل ثقتها وقناعتها، وحين تضع فمها على سطح الماء بهدوء يتراجع القطيع كاملا حتى ترتوي. 
شخصية ساهلة هذه تشبه شخصية أمي كثيرا، فهي صاحبة شخصية قوية وغير عجولة ولا تظهر حاجتها في سلوكها ابدا. 
كما أنها تشبهها في توزيع الأحايين بين الأنفة والوفاء والصبر. 
في عامها الأخير أرسلني والدي رحمه الله لأوصلها لأول مزارات " العارظ" في منطقتنا ذاك العام ( على بعد 15 كلم تقريبا شمال قريتنا)، وكانت على وشك أن تلد أخر مولود وأول ذكر في حياتها. 
بدت لي ثقيلة الحركة وأكبر حجما مما عهدتها عليه، كانت شاردة غير آبهة بأخبار البِشر ولا روائحة الغادية مع الريح. 
تسير ببطء ودأب وتنظر دوما موقع خطوتها امامها دون اهتمام لمسار بقية القطيع ( لهذه الأسباب نعتقد أن البقر أكثر حذقا  من ساسة البلاد)
يعتقد الموريتانيون بأن في الشرق ورما عقائديا قادما من الهند، لكنهم لا يفهَمون شيئا عن البقر  فالبقرة كالعالم   كائن لا يبوح بخفاياه وجواهره  إلا لمن صحبه طويلا. 

بعد ساعتين وصلنا إلى " گيعة صكني" وهي تمور بالمواشي من البقر والبشر. 
اتجهت ساهلة إلى شجرة ظليلة وبركت هناك في الوقت الذي انشغلت قريباتها وبناتها بالوصول إلى المرتع الأخضر نسبيا. 

غفوت غفوة الراعي واستيقظت على بشير ولادتها ومولودها يتمايل في محاولته الأولى للوقوف. 
لقد استجمعت كل طاقتها لتستقبل مولودها بحيوية ونشاط، لكنها منهكة لدرجة لا تسمح بمواصلة ذلك الدور بنجاح. 
هناك حقيقة راسخة بالنسبة لنا، وهي أن البقرة تكتسب صمودها من حرصها على البقاء إلى جانب مولودها، عكس الاب الموريتاني الذي يستمد قوته من نسيان أولاده. 
من السهل الاعتقاد أن هناك  شيئا ما تغير ذلك العام، والمؤشر الابرز في ذلك التغير هو إنجاب ساهلة لعجل ذكر، فالطبيعة تكتفي بإرسال الإشارات. 
أعتقد أننا في ذلك العام أطلقنا مسار التعددية الحزبية والديمقراطية.... الخ
كانت إشارات ساهلة واضحة كبداية لعهد تتغير فيه السنن والقوانين الرتيبة، وتذبل فيه حالات الولادة ولا تأتي بالبشر المعهود. 
لقد كنت منهكا وأنا أتتبعها في انتظار أن تلد أنثى، وتسترجع قوتها المعهودة. 
كانت تلك بداية لعهود الخيبات الكبرى، والهرولة خلف الآمال الكاذبة. 
كيف لم الاحظ أن القطيع لم يعد يهتم لقيادة ساهلة، وأنه تركها في مسارها الجانبي وحيدة ومنهكة. 
لقد كانت بداية أخرى لعهد آخر لا تولى فيه الأجيال اهتماما لتاريخها ولا تعير احتراما للكبار. 

من الفاجع أن يوصف الأغبياء بالبقر. 
لكن عامة الناس لا تدرك ما تقول، والعقلاء قلة في كل زمان. 
عندما ترفع البقرة أنفها فذاك لأنها تحسست البشرِ ( بكير الباء) وتدلك عليه، أما عندما يرفع البشر انوفهم فذاك مؤشر على أنك لم تعد تمتلك ما يكفي لجعلك شيئا وهناك فرق بين من يدلك على بداية جديدة وببن من يدلك على نهاية وجودك في حيزه.

ستعتقدون بأني مجرد رجل من أهل الشرق يتحدث عن البقر.
وليست هذه هي الحقيقة، إنما أردت الحديث عن الأسباب التي جعلت ساهلة تهزل وتلد ذكرا.
نعم، أردت فقط إخباركم بأنها " هزلت"
 

14. أكتوبر 2022 - 18:25

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا