مكسب المعهد التحضيري ونخبة الطلاب فيه / المختار ولد كاكيه

أولا : في السياق العام

تمثل منظومة البولتكنيك التعلمية الموريتانية لدى المهتمين بالشأن العام إحدى تجارب نموذجية تميزت من بين مشاريعنا التنموية في الفترة الأخيرة، و-ربما- سيعد الكثيرون معي على رأس ذلك تجربتين رائدتين؛ تنبغي مواصلة دعمهما، إحداهما في مجال التعليم هي المدرسة العليا المتعددة التقنيات، والأخرى في مجال الصحة هي المركز الوطني لأمراض القلب.
وتهدف هاتان التجربتان، كل منهما في مجالها، إلى تقديم خدمات عالية، من شأنها أن تخفض عاما بعد عام من الاعتماد على الخارج في تأمين تلك الخدمات للمواطنين وللدولة عموما.

ومنظومة البولتكنيك، التي لها علاقة بحديثنا هنا، هي في واقع الأمر عبارة عن مجموعة مؤسسات تكوين في مجال التعليم العالي (مجموعة البولتكنيك)، لها وصاية مشتركة من الوزارتين المكلفتين بالدفاع والتعليم العالي، وتضم هذه المجموعة المدرسة العليا المتعددة التقنيات (البولتكنيك نفسها)، والمعهد التحضيري لكبريات مدارس المهندسين، وأربعة معاهد عليا مهنية في مجالات: الهندسة المدنية، والمعادن، والإحصاء، والطاقة، بحسب موقع المدرسة.

وآراء المهتمين اليوم من داخل مجموعة البولتكنيك ومن خارجها (آباء الطلاب الذين بها والمواطنين المهتمين بها كخيار مستقبلي لأبنائهم وبعض الرأي العام الوطني عموما) تبدو مجمعة على وضوح الآفاق المرسومة بالنسبة للمدرسة العليا متعددة التقنيات وللمعاهد المهنية الأربعة، وعلى الحاجة إلى مقاربة تجمع بين الإنصاف والطموح بالنسبة للمعهد التحضيري لكبريات مدارس المهندسين.

أما المدرسة العليا المتعددة التقنيات فإن استراتيجيتها المنصفة والطموحة تتمثل في استمرار خيار الشهادات المزدوجة كحل مؤقت في الأمد القريب، في إطار اتفاقيات ثنائية مع جامعات فرنسية ومغربية وتونسية، في انتظار الحل المستديم في الأمد المتوسط وهو تأمين الاعتماد الدولي للدبلوم الوطني، إن شاء الله.

وأما المعاهد العليا المهنية فإن اختارت مجالات تكوين لا تخفى حاجة سوق العمل إليها حاليا وفي المستقبل القريب.

وأما المعهد التحضيري لكبريات مدارس المهندسين، فإنه –حسب موقعه على الانترنت- أنشئ لتقديم "تكوين من سنتين ذي مستوى علمي عال جدا يراعي المعايير الدولية لتمكين الطلاب، ليس فقط من الولوج إلى مدارس المهندسين الوطنية، وإنما أيضا إلى مدارس المهندسين في المنطقة وفي فرنسا"، وبدأ دروسه مع الافتتاح الدراسي لسنة 2015، وبحسب تقديرات بعض أساتذته، فقد أتاح "لحوالي 150 طالبا موريتانيا الولوج إلى كبريات مدارس المهندسين في فرنسا وفي الدول المجاورة، منهم أكثر من عشرين في مدرسة البوليتكنيك الباريسية العريقة".

ويمثل هذا المعهد، وما يزال، خيارا أول لاستقطاب وتوجيه المتميزين من ناجحي الباكلوريا من شعبة الرياضيات، يتركون من أجله كل بدائل المنح في الخارج، ويعقد النخبة من طلابه ووكلاؤهم الأمل بوجه خاص على كونه يفتح باب المشاركة لنخبة النخبة منهم في مسابقات الولوج إلى مدارس المهندسين الفرنسية الرائدة، مما يعدهم بتكوين عال متميز، ولأجل ذلك يستحسنون التدريب العسكري ومكاسبه التربوية، ويسهرون الليالي في الأشهر المتتالية في التنافس الإيجابي للوصول إلى أولى المراتب في نخبة النخبة، لتمكينهم من تلك المشاركة.
واليوم فإن دفعة نخبة النخبة منه (MP étoile) عُرفت، ورُتبت، وهي جاهزة لتسجيل مشاركتها في مسابقات CMP وCCINP المذكورة التي ينتهي أجل التسجيل فيها في 11 يناير 2023.

والذي يحفز إلى الكتابة عن المعهد التحضيري، اليوم، هو حديث في الآونة الأخيرة عن احتمال أن يكون غير متاح هذه السنة إجراء المسابقات في مركز السفارة الفرنسية بنواكشوط، حيث يوفر هذا المركز تسهيلا لوجستيا لإجراء مسابقتين هامتين هما CMP (مسابقة المعادن والجسور العريقة) وCCINP )المسابقة المشتركة للولوج إلى كبريات مدارس المهندسين بفرنسا)، مما يرجع موريتانيا –إن صح إلغاؤه- إلى وضعية الدول التي ليست لها مراكز خاصة لإجراء تلك المسابقات والتي تعمل على تسجيل ومشاركة طلابها في مراكز أخرى بديلة، وقد كان بعض هذه الدول يجري تلك المسابقات مثلا في مركز نواكشوط أو في فرنسا مباشرة. 
كل ما في الأمر أن الحديث عن احتمال إلغاء ذلك المركز قد يؤثر لا إراديا على مستوى تحضير الطلاب لتعلقهم بسماع نفيه أو تأكيد التسجيل في مركز بديل.

لذلك جاءت هذه الخاطرة للمساعدة في التفريق بين مستويين ممكنين من التعاطي مع هذا الاحتمال.
أولهما على الأمد القريب وفيه تأكيد مشاركة جميع الطلاب الذين في المعهد التحضيري، المؤهلين حاليا أو سيكونون كذلك في السنة القادمة، كما كان مبرمجا.
وثانيهما على الأمد المتوسط، وفيه دراسة استمرار نظام المشاركة في المسابقات الحالي نفسه والاستفادة من المصداقية التي اكتسبها المعهد على إثره وهو ما نأمل بقاءه في مستوى من المستويات، أو ترجيح توجيه المركز لإعداد المترشحين إلى المدرسة العليا المتعددة التقنيات نفسها كزيادة رهان على مكاسبها التنافسية الحالية، أو الموازنة بين الأمرين بما يناسب رؤية القطاعات الحكومية المعنية.

ثانيا : في الأمد القريب

في ظل المنظومة القيمية لتسيير الشأن العام السائدة اليوم والتي تعلي –بفضل الله- من قيمة الإنصاف، فإنه في الأمد القريب ينبغي في رأيي:

- أن يكون محسوما أن يُسجَّل الطلاب الذين تم -قبل يومين- الانتهاء من ترتيبهم النهائي كمجموعة نخبة نخبة (MP étoile)، بهدف تحديد المشاركين منهم في مسابقات الولوج إلى كبريات مدارس المهندسين في فرنسا قبل انتهاء أجل التسجيل في 11 يناير 2023، لكي لا يحرموا من الخيارات المهمة التي عملوا لأجلها منذ نجاحهم في الباكلوريا واختيارهم للمعهد التحضيري، وهي : مسابقةX  العريقة كفرصة متاحة للجميع على صعوبتها، وبحسب الترتيب بعد ذلك: مسابقة CMP كمستوى ثان، ثم CCINP كمستوى ثالث.

- وبنفس منطق الإنصاف، أن يجد الطلاب الموجودون اليوم في السنة الأولى من المعهد، وذووهم، التطمينات التي يبحثون عنها الآن على أن الآمال التي التحق من أجلها الطلاب بالمعهد التحضيري لا زالت في محلها، وهي المشاركة في مسابقات الولوج إلى مدارس المهندسين في فرنسا المذكورة، إن رفعوا هممهم إلى مستوى من التحضير الكافي لبلوغ ذلك الهدف.

ثالثا : في الأمد المتوسط
‎‎
من خلال اهتمامي الخاص بتجربة البولتكنيك الموريتانية الرائدة، كمهندس، وكخريج جامعة أوروبية ممنوح بعد التميز في الباكلوريا، وكعائد إلى وطنه بعد ذلك، وكوكيل لطالب، وكمواطن يهتم بالشأن العام؛ أرى:

أولا أن فتح مراكز بنواكشوط للمشاركة في مسابقات دخول كبريات مدارس المهندسين في فرنسا وتونس والمغرب وغرب إفريقيا؛ يمثل –بحق-، كما يقول بعض من كتب عن هذا الموضوع، "اعترافا بجودة التكوين والتأطير المقدمين في المعهد ونجاحا لموريتانيا ولتعليمها العالي، وحافزا لإدارة المعهد وأساتذته لمضاعفة الجهود من أجل رفع التحدي، وضمانا لجودة التعليم المقدم". 
ومن المؤكد عندي أن إغلاق هذه المراكز، خاصة تلك المرتبطة بمسابقات الولوج إلى مدارس المهندسين بفرنسا، سيؤدي إلى فقدان المعهد لبريقه لدى الطلاب المتميزين والمتفوقين في الباكلوريا. وبالفعل فإن كثيرا من الطلاب، أو آباء الطلاب، عند ما يتأكدون من ذلك اليوم، سيكون تأخير المعهد في خياراتهم غدا هو أول ما سيفكرون فيه. وذلك ما يخشى –بالفعل- أن يسهم في إثراء معاهد الدول المجاورة والرفع من تصنيفها، وأن يؤثر على المكاسب العلمية والمعنوية الحالية للمعهد.

 وفي المقابل فإني، بعد انطباع حسن قديم عن مدرسة البولتكنيك، وبعد التعرف على القائمين على قيادة الشأن الإداري والأكاديمي فيها والتشرف بفرصة زيارتها في الأيام الأخيرة والاطلاع على البنية التحتية والموارد البشرية التي تتوفر عليها، ازدادت قناعتي بمستوى ريادة هذه التجربة.
ولقد فرحت كذلك بالمكسب المتحصل عليه من شهادة الفرنسيين أنفسهم من خلال هيئة اعتماد التكوين الهندسي من أن التكوين الذي تقدمه المدرسة العليا المتعددة التقنيات لا يقل جودة عن نظيراتها في فرنسا والمغرب وتونس، كما أكده البعض من المهتمين.

وفي ضوء كل ذلك، أرى أن التحول المتدرج إلى تكوين السواد الأعظم من المهندسين الوطنيين محليا، والحصول على الاعتماد الدولي بصفة نهائية في انسجام تام مع محددات سيادة البلد كقيمة فوق كل اعتبار؛ يشكلان بالفعل هدفين وطنيين ساميين، وإنجازين نأمل أن يتحققا معا في أقرب أمد ممكن، لعله الأمد المتوسط 2-3 سنوات مثلا، ومن ضعف الهمة أن تتردد نخبتنا الإدارية والأكاديمية عن الإيمان به ومتابعة العمل من أجله، ومكاسبهم في ذلك نعمة من الله على هذا هذا البلد أجراها على أيديهم.

لكن المقاربة الحالية للمسابقات، من نفس منظور الأمد المتوسط على الأقل، لها أيضا مكاسبها اليقينية التي لا ينبغي التفريط فيها.
ذلك أن تحفيز نخبة من المتميزين في شعبة الرياضيات في الباكلوريا إلى بذل أعلى مستويات الهمة والتحضير من أجل النجاح في مسابقات تمكن من الولوج إلى بعض مدارس المهندسين العريقة في فرنسا أو في بلدان أخرى؛ ستظل لسنين لا نعلم عددها أحسن من مثيلتها المحلية؛ يمثل هدفا وطنيا ساميا كذلك. وقد كانت دول المنطقة وما تزال تولي اهتماما لتكوين جزء من نخبتها العلمية في منظومات تعليم عال أفضل، لأهداف وجيهة متعددة ليس أقلها نقل الخبرة.

أما الاعتراض على إرسال نخبة النخبة إلى فرنسا بحجة احتمال بقائهم فيها كبعض سابقيهم، وإن تم تداول مثل هذا الرأي؛ فإنه قطعا ليس بحجة جادة في هذا السياق. 
فمن ناحية أولى يستوي في إرسال نخبة النخبة من الطلاب إلى الخارج أن يرسلوا إلى فرنسا أو غيرها. فإنهم إن أرسلوا إلى المغرب أو تونس وتميزوا –وكثيرا ما يفعلون-؛ تقتنصتهم هناك فرص العمل في فرنسا وغيرها، أو يذهبون للبحث عنها إذا رغبوا فيها.
ومن ناحية ثانية، فإن الذين ترسلهم المدرسة العليا المتعدد التقنيات حاليا، بعد دراسة سنتين فيها إلى الخارج، للحصول على شهادة مزدوجة، إن بقوا متميزين؛ فسيسهل اقتناصهم كذلك ويبقون في الخارج، وإن لم يتميزوا أمكنهم البحث عن العمل في الخارج إن كانوا متشبثين بذلك.
وليس من الحلول الجذرية لهذا الأمر قطعا الاقتصار على التكوين المحلي لخريجي الباكلوريا أو منعهم من الحصول على فرص تكوين أفضل في الخارج، بل إن نخبة النخبة التي تكونت في الخارج من أكثر الناس رجوعا إلى البلاد لقدرتهم التنافسية الكبيرة على اقتناص ما يتاح من الفرص المحلية ولو كانت محدودة. وقد عاد أخيرا كثير منهم لئلا يفوتهم التموقع في ظل تحول اقتصادي مرتقب، والحمد لله، ومَنْ بعدهم من نخبة النخبة سيكون الرجوع عليهم أسهل.

وأخيرا، أود أن أشير إلى أن تسرب العقول يمثل مشغلا هاما لدى كثير من دول العالم ذات السياقات التنموية الشبيهة ببلادنا، في دول المنطقة وغيرها، والبحث في الحلول له، وفي مقدمتها وجود الفرص المحلية والظرفية العامة المناسبة كما أشرت إليه، أمر لا يسعه حيز هذا المقال، الذي طال بما فيه الكفاية بهدف بسط الأمر بالمستوى اللازم والواجب من الإنصاف.

29. ديسمبر 2022 - 21:52

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا