لوحة فنية عالمية لأحد الأمراء الموريتانيين في القرن التاسع عشر / سيدي أحمد ولد الأمير

في هذه المقالة سأتحدث عن قصة لوحة فنية عالمية تتحدث عن أمير الترارزة أعمر ولد المختار (توفي 1829م) وتتحدث عن مجلسه وعن وزرائه، فلم أر من اهتم بها رغم أهميتها البالغة. هذه اللوحة صممها الفنان الفرنسي الشهير جيروكو 1818م بعدما سمع من عالم الطبيعيات الألماني أدولف كومر قصته، بوصفه أحد الناجين من ركاب سفينة لا ميدوز الفرنسية أولا، وما يتعلق بمشاهداته وهو في محصر الترارزة ثانيا، لكن بعض المراجع الأجنبية غيرت اسم الأمير، ولعلها لم تقرأ قصة كومر كاملة كما وردت في أدبيات غرق سفية لاميدوز، ثم إن بعض المراجع أيضا نسبت الصورة لبعض ملوك الزنوج أي السنغال مع أنها لأمير موريتاني، فهي تتكلم عن أسرته وعن حيه وعن فضائه ومجاله. 
وتعكس قصة الألماني كومر التي اعتمد عليها جيريكو في تصميم لوحته مدى اهتمام أمير الترارزة بالحروب النابوليونية وبحملة نابوليون على مصر وهو أمر لافت، كما تعكس ثقافة سكان البدو وعن كرمهم وعن ضيافتهم. ومع ذلك بقي هذا التراث الفني العالمي المتعلق بموريتانيا نهبا للمدعين وعرضة لأخطاء الجاهلين وموضع غياب تام من طرف المعنيين والمقربين. وسنحاول تقديم قصة هذه اللوحة وأهميتها العالمية، وكيف كان لهذه الأرض الشنقيطية ومن عليها مكانة وقيمة تجاوزت الحدود المحلية لتكون جزءا من تراث عالمي ضارب في الأهمية.

فرقاطة لا ميدوز الفرنسية والغرق قرب حوض آرغين

يعرف أغلبُ المهتمين بالثقافة العامة الرسامَ تيودور جيريكو، فهو الفنان الفرنسي بل الفنان العالمي الشهير المتوفى في 26 يناير 1824م، والمشهور بلوحته الذائعة الصيت "طوافة لا ميدوز" (Le Radeau de La Méduse)، التي تؤرخ وتحكي بالريشة والقلم مشهد غرق الفرقاطة الفرنسية لا ميدوز عندما جنحت في 2 يوليو 1816م جراء اصطدامها برمال في الأعماق عند حواف حوض آرغين قرب الشواطئ الموريتانية. 
وبعد أربعة أيام من المحاولات اليائسة لإنقاذ الفرقاطة العملاقة لا ميدوز وهي تغالب الغرق، وهي التي كانت تحمل ما يناهز الأربعمائة شخص، وبعد تصميم طوافة من الخشب والحبال على عجل، توجه ما يقارب المائتي راكب من أصحاب الرتب العالية كالإداريين والضباط وكبار الموظفين إلى الزوارق والقوارب المعدة أصلا لهذه الحالات الطارئة، بينما هرع ما يزيد على 150 راكبا ما بين جندي وبحار ومسافر عادٍ ومن بينهم امرأة واحدة متدافعين نحو الطوافة الخشبية التي استغرق شد أعوادها وربط أخشابها بالحبال وتصميمها المستعجل أربعة أيام فقط، وهو ما يعني تعريض من سيركبونها إلى مصير مقلق ومخاطر جمة. ولم ينج من راكبي الطوافة إلا عُشْرهم، أي 15 شخصا فقط، وذلك حين مرت بهم فرقاطة فرنسية أخرى تسمى أرغوس فأنقذتهم من على الطوافة، وكان ذلك الإنقاذ في السابع عشر يوليو 1816، خمسة عشر يوما بعد حادث الغرق. ومن بين الناجين، توفى خمسة أشخاص بُعيد وصولهم إلى سانت لويس (اندر) في السنغال، بسبب وعثاء السفر وما لاقوه من الجوع والعطش، وقد وصل الهلع والخوف ببعضهم إلى الخبل وهم على الطوافة في عرض البحر، بل إلى أكل بعضهم لحوم بعض.
أما ركاب الزوارق والقوارب فقد وصل بعضهم إلى السنغال بجهد جهيد وبمغالبة أمواج عاتية لا ترحم من أمثال الوالي الفرنسي شمالتز وأسرته. وبعض الركاب طوحت بهم مراكبهم على الشواطئ الموريتانية، فما كان منهم إلا السير على الأقدام نحو سان لويس بالسنغال، وكأنما قيل لهم: لتركبنَّ طبقا عن طبقٍ؛ حيث ظلوا في تيههم المخيف حتى اعترضهم التاجر والقبطان الأيرلندي السير كارنيت قادما من سان لويس في قافلة على ظهور الجمال ومعه أربعة أدلاء من البيظان، وطان قد أخذ معه طعاما وملابس ومالا لإسعاف هؤلاء الناجين. وكان مع هؤلاء عالم الطبيعيات الألماني أدولف كومر، وهو عضو الجمعية الخيرية للرأس الأخضر، تلك الشركة الفرنسية الخاصة المتأسسة سنة 1814م، والتي كان الهدف منها إنشاء مستعمرات زراعية تساعد في النشاط التجاري والفلاحي في مستعمرة السنغال، ويُستغل فيها الأفارقة يدا عاملة وافرة وزهيدة، وكان من المقرر إنشاء هذه الشركة في شبه جزيرة الرأس الأخضر، على بعد أربعة فراسخ من جزيرة غوري بالسنغال. 
كان أدولف كومر يعرف مبادئ لا بأس بها من اللغة العربية وكان يحسن كتابتها، وقد آواه حي أولاد السيد من أولاد أحمد بن دمان من الترارزة، قبل أن يُسَيِّره الأمير أعمر ولد المختار هو ورفيقه الفرنسي روجري مع رفقة يقودها ابن أمير الترارزة محمد الحبيب. 
وإذا كان الرسام جيريكو قد خلد قصة الطوافة بلوحته الشهيرة، فإنه قام قبيل ذلك بعدة رسومات أولية تحضيرا لعمله النهائي، ويعرف عنه أنه قابل بعض الناجين من الغرق فوصفوا له مشاهداتهم وحكوا له عن تجاربهم، ومن بينهم الألماني كومر الذي كان ضيف محصر الترارزة، وكل هذه المعلومات المثيرة التي رواها كومر وغيره قد وردت باستفاضة في كتاب آرمان برافييل الذي خلد قصة غرق الفرقاطة الفرنسية في كتابه المنشور سنة 1934م والذي يحمل عنوان "طوافة لا ميدوز". 
من بين تلك الرسومات الأولية التي صممها جيريكو لوحة خاصة بأمير الترارزة أعمر ولد المختار (انظر ملحقات هذه المقالة)، وقد اعتمد في تفاصيلها على قصة العالم الألماني كومر؛ إذ روى له نزوله في محصر الترارزة، ومحاضرته في مجلس الأمير أعمر ولد المختار عن الامبراطور نابليون بونابرت وعن حملاته العسكرية وحروبه الشهيرة. 
واعتمادا على كتاب آرمان برافييل، وخصوصا فصله الرابع، فإني سأحاول ترجمة أغلب معاني ما ورد فيه دون التقيد بالنص حرفيا، ويمكن لمن يريد الاطلاع على النص بأكمله وعلى أصله الفرنسي أن يقرأه في الشبكة فهو متاح فيها. وما أوردته هنا هو الإحاطة بالمعاني الواردة فيه دون تغيير أو تحريف، وقد استخلصت أبرز عناصر قصة العالم الألماني كومر واستضافته من طرف حي أولاد السيد أولا، ثم نزوله بمحصر أمير الترارزة كما سردها برافييل في كتابه: "طوافة لا ميدوز"، مع تبيين أمور يستوجب السياق تبيينها، ليست في كتاب برافييل بالضرورة، لكنها ستكون تبيينا وتوضيحا مني، وهي قليلة وسيميزها القارئ بسهولة عن نص برافييل.

الألماني كومر في ضيافة أهل إبراهيم الغالي من أولاد السيد ولد هدي

في اليوم السادس لجنوح الباخرة الفرنسية لا ميدوز، أي يوم 8 يوليو 1816م، ألقت أمواج المحيط الأطلسي الهادرة ببعض الناجين ممن امتطوا بعض زوارق النجاة، وممن قذفهم المحيط بالساحل عالم الطبيعيات الألماني أدولف كومر، ومعه عشرات الناجين الذين بادروا في جعل شاطئ المحيط من عن يمينهم متجهين شطر مدينة سان لويس بالسنغال، ويبدو من خلال استنطاق الخرائط أن بعض هؤلاء الناجين لامست أرجلهم اليابسة قرب نوامغار بمحاذاة رأس تميريس المطل على حوض آرغين، وبعضهم رماه الموج جنوب ذلك، أي قرب الجريدة أو ميناء هدي شمال نواكشوط، وهو ما يعني أنه بات يفصلهم عن وجهتهم سان لويس بالسنغال ما يقارب 300 كلم. ومن بين الأخيرين عالم الطبيعيات الألماني كومر الذي تخلف عن رفقائه؛ لأنه فيما يبدو لم يكن يريد تلك المغامرة التي سيتعرض من اختاروها لمصير لا يرحم، فلا زادَ يحملونه معهم ولا ماء سوى ماء المحيط الأجاج، فتلك الرفقة ستدخل دون شك في مجازفة، بل ستعرض أحوالها لمخاطر كقطاع الطرق وتنمر السكان والعطش والجوع وشمس الصيف الحارقة. 
انقطع الألماني كومر عن رفقته وسار أول الأمر بين سلسلة الكثبان الرملية الشاطئية سالكا الوهاد الفاصلة بينها، وقد ظل في تيهه ذلك مستمتعا بما يجمعه من أصداف ونباتات وعوالق تثير فضوله كعالم طبيعيات. وفي المساء، وقد بدأ التعب يدب إلى جسمه، كان كومر يتساءل بإلحاح: ألم يكن من الأفضل له أن يتبع أصحابه الذين توجهوا في الصباح راجلين في اتجاه السنغال؟ لكنه، ولحسن الحظ، رأى دخان النيران أمامه يعلو من فوق مرتفعات رملية على مسافة غير بعيدة. ودون تردد توجه تلقاء ذلك الدخان الذي عرف بسرعة أنه منطلق من نيران حي بدوي يخيم قريبا، ولم يكن ذلك الحي سوى حي من أولاد السيد من أولاد أحمد من دمان.
شعر السكان ببعض الدهشة لرؤية هذا الشخص الغريب الذي يرتدي قبعة كبيرة، ومعطفا طويلا يتدلى فوق لباسه، كما أنه يحمل حقيبته الصغيرة المليئة بالأعشاب والأصداف التي التقطها صباح ذلك اليوم. 
ونظرا لمعرفة الألماني كومر بمبادئ اللغة العربية، فقد حيا مستقبيله بلسان عربي فصيح، قائلا بعض السلام: أنا مسلم من صعيد مصر، وقد رمت بي أمواج البحر على شاطئكم بعد غرق السفينة التي كانت تحملني مع غيري. وباسم الرسول صلى الله عليه وسلم فإنني أريد ضيافتكم ومساعدتكم، ثم ولى وجهه شطر المسجد الحرام وخرَّ ساجدا. كانت هذه الألفاظ العربية وهذا السجود كفيلين بإثارة دهشة بل وتعاطف سكان حي أولاد السيد، فاستقبلوا ضيفهم الغريب بحفاوة بالغة، وأدخلوه خيامهم، وبسطوا له الفُرُشَ، وأعدوا له النُّزُلَ من الحليب والكسكس كما قال. ثم تقدم إليه أحد الحاضرين معرفا نفسه قائلا أنا: محمد ولد إبراهيم الغالي ولد السيد أمير الترارزة. 
ومن المعلوم -والكلام هنا ليس لكومر- أن أسرة أهل إبراهيم الغالي من أبرز أسر أولاد السيد من أولاد أحمد من دمان، فهو: إبراهيم الغالي ولد اعلي ولد السيد ولد هدي ولد أحمد من دمان، ومن فروعها أهل بوبكر ولد المعلوم وأهل سيدي هيبه، ومن المعلوم كذلك أن بعض المؤرخين كبول مارتي والمختار ولد حامدٌ يذكران أن السيد ولد هدي تولى الإمارة بعد وفاة أبيه هدي ولد أحمد من دمان.
وبالعودة لنص كومر فقد قام زعيم أولاد السيد باصطحاب الضيف الألماني إلى داخل خيمته بعد أن أراه قطعان أنعامه، ثم طفق يستفسره عن المكان الذي ألقاه فيه زورق التجديف. ويبدو من خلال ملاحظة كومر أن محمد ولد إبراهيم الغالي يعتقد أنه قد تكون هناك غنيمة ما على الشاطئ، وقد طلب ولد إبراهيم الغالي من كومر الساعة التي عنده، فما كان منه إلا أن أعطاه إياها.
تفاجأ الضيف الألماني بكثرة أسئلة مضيفه عن الثورة الفرنسية وعن الحروب النابوليونية؛ حيث لم يكن يتوقع أن هؤلاء البدو وهم في صحرائهم البعيدة متابعون للحروب الأوروبية وتفاصيلها. كما عبر ولد إبراهيم الغالي لضيفه الألماني عن اندهاشه من أنه مضت فترة طويلة ولم تشاهَد أي سفن فرنسية في ميناء بورتينديك ولا في حوض آرغين وجزره. 
وبعد هذا الحديث استسلم الضيف كومر لنوم عميق فقد خلاله حقيبته التي تحتوي على ثلاثين "لويس ذهبية" أي عشرين فرنكا، كما فقد ربطة عنقه ومنديله وسترته ومعطفه، ولم يترك له من نهبوه سوى سرواله وسترة الصيد. إلا أن كومر كان حريصا على عدم الاحتجاج أمام مضيفه محمد ولد إبراهيم الغالي الذي اصطحبه حوالي الساعة الثامنة صباحا رفقة حرطاني معهما إلى نقطة الشاطئ التي كان قد نزل عندها في اليوم السابق.
لم يتم العثور هناك على شيء يذكر؛ حيث حملت الأمواج معها القارب وما تبقى فيه، ومع ذلك، تم جمع عدد قليل من البراميل الفارغة، وقطع من النحاس، وعاد الجميع إلى المخيم. لكن هذه الرحلة نحو شاطئ البحر، والتي استمرت من الصباح حتى القائلة، جعلت كومر يدرك طريقة البيظان في الاستقصاء والبحث في صحرائهم، فكانوا في البداية يصعدون على أعالي الكثبان الرملية متنقلين من كثيب إلى آخر بادئين بالجنوب ثم يتوجهون غربا ثم شمالا، وهكذا.
كان زعيم أولاد السيد راغبا في راحة ضيفه، غير أن شغب أطفال الحي وفضول نسائه منعاه من الراحة، فالجميع لا يفتأ يحاصره بالنظر ويباغته باللمس ويضايقه بالتعجب من لباسه، ويطارحه أسئلة لا نهاية لها. اختار كومر أن يكتب إجاباته على الرمال، وبأحرف عربية، وكان مندهشا حين رأى أن الجميع يقرأ، حتى الصغار البالغين من العمر خمس أو ست سنوات يمكنهم القراءة بشكل منطلق.
بغتة ظهر الزعيم محمد ولد إبراهيم الغالي وكان مستاءً جدا؛ لأن الساعة لم تعد تعمل، وكان من اللازم للسيد كومر أن يعيدها سيرتها الأولى، بتحريك زر التعبئة، ذلك التحريك المعروف في الساعات الميكانيكية التي تعمل وفق نظام سلسلة التروس (Système d'engrenage)‏.

الرحيل نحو محصر الترارزة ولقاء الأمير أعمر ولد المختار

اندمج الضيف الألماني بسرعة في نظام الحي البدوي، وأصبح أكثر سعادة؛ حيث صدق الجميع أنه مسلم ذو أصول صعيدية مصرية، وذلك بسبب معرفته باللغة العربية، وذكائه في التعامل مع مختلف زواره. وفي يومه الثالث قوض الحي خيامه وطووا أثاثهم  ورتبوا أمتعتهم واتجهوا إلى الجهة الجنوبية الشرقية قاصدين محصر أمير الترارزة حيث الأمير أعمر ولد المختار. وبعد حط الرحال، وحين كان الجميع يحاول النوم في قيلولة الظهر، استيقظ كومر على أحد رفقائه في باخرة لا ميدوز وهو الفرنسي روجري الذي اقتاده رجلان من رجال الحي نحو خيمة الزعيم محمد ولد إبراهيم الغالي. كان الفرنسي روجري عضوا في جمعية الرأس الأخضر الخيرية شأنه في ذلك شأن الألماني كومر، وكانا معا في نفس الزورق الذي انقلب قرب الشاطئ الموريتاني. وكان كومر يعتقد أن روجري ربما مات غرقا أو هلك عطشا أو كان على أحسن احتمال ضمن التائهين القاصدين سان لويس. ولم تكن فرحة كومر بلقاء روجري حيا تضاهي دهشته من منظره المتشرد وثيابه الممزقة وحاله المثير للشقفة. ويبدو أن روجري كان قد أمضى في تيهه يومين فظيعين في الصحراء، ولم يكن في استقبال السكان له الكثير من الحفاوة، عكس ما لقيه كومر عند حي أولاد السيد. لقد سرق من روجري كل شيء: أربعون "لويس ذهبية" وغيرها، كما تعرض لإهانة الأطفال وضربهم، ومن قسوتهم أنهم كانوا يغرزون الأشواك البرية في جسمه، لذلك لم يصل روجري لحي أولاد السيد إلا وهو نصف مجنون.
قام كومر بتهدئة روجري قدر استطاعته وعانقه وقدمه إلى زعيم الحي محمد ولد إبراهيم الغالي، الذي واساه ببعض النبق، وهو ثمرة شجرة السدر. وفي المساء وصل حي أولاد السيد لمحصر الأمير أعمر ولد المختار، وقد وجدوه غائبا وسيعود بعد أربع وعشرين ساعة. وقد وجدوا ابنه محمد الحبيب (أمير الترارزة فيما بعد) الذي ناقش معهم، وقبل وصول والده الأمير، شروط إعادتهم إلى سان لويس. ومما اشترط عليهم محمد الحبيب الالتزام بتعويض تكاليف السفر من نفقة الرفقة وأجرة التوصيل، وقد قبل الألماني كومر المبلغ الباهظ الذي حدده محمد الحبيب وهو ألفان ومائتي فرنك، في حين تردد الفرنسي روجري في القبول. لكن كومر، وبحسه السكسوني العملي، قال لصديقه الفرنسي: لنقبل كل هذه العروض، وفي سان لويس سنعطيهم كيفما نريد. وقد حرص محمد الحبيب على أن يكون الاتفاق بينه وبين الأوروبيين الاثنين مكتوبا باللغة العربية.
بعد يوم من وصول الأوروبيين للمحصر وفي 11 يوليو وصل الأمير أعمر ولد المختار، الذي يبدو أن اسمه مأخوذ -كما يقول كومر- من مسرحية لفولتير، والواضح أن كومر يشير إلى إحدى مسرحيات فولتير المتعلقة بالإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن إحدى شخصيات تلك المسرحية تدعى عمر، وذلك ما يعنيه كومر دون شك. لم يسم كومر الأمير باسمه بل اكتفى بهذا الترميز الأدبي والإيحاء الثقافي الذي لا يعرفه إلا القليلون من المطلعين على مسرحيات فولتير، وقد ظل كومر يسميه في سرده بصفته الأمير دون ذكر اسمه أعمر. والملاحظ أن هذه الإشارة الأدبية والكناية الإيحائية إلى تطابق بين اسم إحدى شخصيات مسرحية فولتير مع اسم أمير الترارزة فاتت جميع المراجع التي اهتمت بلقاء الألماني كومر مع الأمير أعمر ولد المختار ولم تلتفت إليها ولم تعرها أي اهتمام، بل ظلت تتحدث عن الأمير وكأن اسمه "السيد" أو "ولد الغالي"، وهو خطأ فادح، بل إن بعض المراجع جعلت ولد إبراهيم الغالي ولد السيد صاحب الصورة، واقتصرت على اسم جده السِّيِّدْ، فصارت الصورة في هذه المراجع للأمير السِّيِّدْ، وهو تخبط وعدم تمحيص وتجاوز لما في قصة الألماني كومر. 
ومن الواضح أن ما ذكره كومر في بداية قصته أن ولد إبراهيم الغالي ولد السيد هو زعيم أولاد السيد وليس و أمير الترارزة أعمر ولد المختار ولا هو صاحب اللوحة، وقصة كومر واضحة في التفريق بين الشخصيتين، فلم تخلط بينهما ولا أعط لأي منها دور الثاني. وهذا إنما هو سهو وقع فيه من نقلوا نقلا خاطئا ما كتبه كومر، بل إن بعض المراجع اشتطت في التحريف وبالغت في الخطأ فجعلت من ولد إبراهيم الغالي ولد السيد أحد أمراء السنغال، وهو خطأ ثان، وليس في النص ما يشير إليه، بل على العكس من ذلك فإن النص يتحدث عن حوض آرغين وعن ميناء هدي وغيرها من مواضع موريتانية سكانها موريتانيون، ولا علاقة لها ولا لهم بالسنغال.
وصف كومر موكب الأمير قائلا إن أعمر ولد المختار محاط بجنود مسلحين بالرماح وسيوف اليطقان التركية، ويرافقه حرطانيُّه المفضل الذي تحيط بعنقه سبحة رائعة من اللؤلؤ الأحمر. كما كان أعمر فارع القامة، ويرتدي ملابس غاية في الأناقة، وتتدلى من جنبيه السيوف والخناجر والمسدسات. ومما يميز ملامح الأمير أعمر ولد المختار أنه كان أفْقَمَ (امْلَكْشِي كما يقال في الحسانية)؛ حيث تتقدم ثناياه العليا فلا تقع على السفلى، ويظهر ذلك بجلاء عندما يضحك، وهذه الظاهرة الخَلْقَية -كما يلاحظ كومر- علامة على الجمال عند مجتمع البيظان.
أعطى الأمير أوامره باستقبال ضيفيه الأوروبييْن استقبالا جيدا، كما شدد على ضرورة إبعاد الأطفال الفضوليين عن المسكين روجري وتركه لوحده. وفي فترة ما بعد الظهر، استدعاهما الأمير إلى مجلسه، وفور وصولهما أمر وزيره (لعله المختار ولد سيدي ولد عبد الوهاب السباعي) برسم خريطة جنوب أوروبا على الرمال، وأن يُبينَ البحرَ الأبيض المتوسط على الخريطة ويُبرز إفريقيا، كما أمر وزيره بتحديد جزيرة إلبا الإيطالية على الخريطة، ثم رفع رأسه إلى كومر في نظرة استجواب. اندفع كومر متحدثا بهدوء وقائلا: أيها الأمير، إذا كنت تريد مني أن أخبرك عما فعله الإمبراطور نابليون العام الماضي وكيف هرب من جزيرة إلبا الإيطالية نحو باريس، فمن فضلك أريد إعادة ساعتي التي أخِذَتْ مني قبل أيام. أعيدت الساعة إليه دون صعوبة، إلا أنها كانت بحاجة إلى إعادة تشغيل نظرا لتوقف تروسها عن الحركة.
روى عالم الطبيعة الألماني كومر للأمير أعمر ولد المختار قصة المائة يوم الشهيرة، وتعرف في التاريخ باسم أيام نابليون المائة، وهي التي تحدد الفترة بين عودة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت من المنفى في جزيرة إلبا الإيطالية إلى باريس يوم 20 مارس 1815 واستعادة الملك لويس الثامن عشر الثانية في 8 يوليو 1815. شهدت هذه الفترة حرب التحالف السابع، ومعركة واترلو، وحرب نابولي. ومعلوم أن أول من استخدم عبارة المائة يوم كان محافظ باريس غاسبار كونت شابرول في كلمته الترحيبية بالملك. 
كان كومر وهو يتحدث عن الامبراطور الفرنسي يسميه أحيانا نابليون، وأحيانا بونابرت، فسأله أحد الزوايا الحاضرين في مجلس الأمير أعمر ولد المختار إذا كان الاسمان يطلقان على نفس الجنرال الذي رأى قواته في مصر عندما ذهب قبل سنوات وفي بداية القرن التاسع عشر في رحلة الحج إلى الحجاز وشاهد الجيش الفرنسي في القاهرة. فكانت إجابة كومر: نعم، هو نفسه. وعندها هتف الحضور بما يعني أن هذا القبطان العظيم أصبح إمبراطورا، وكانوا يعتقدون أن كومر يتحدث عن شخصين مختلفين.
سأل الأميرُ العالمَ الألماني: ألم يكن والدك ضمن الجيش المصري الذي حارب نابليون؟ فأجاب كومر: إن والدي تاجر مسالم للغاية، مثلي، ولذلك فهو لا يحمل السلاح. وما إن نطق كومر بهذا الجواب حتى ضحك الأمير أعمر ضحكة أظهر فَقَم أسنانه بشكل أعظم كما يقول كومر.

العودة إلى السنغال برفقة محمد الحبيب

في اليوم التالي أي 12 يوليو أمر الأمير بتجهيز البعثة التي سترافق كومر وصاحبه روجري نحو سان لويس، وتتكون من رئيس البعثة وهو ابنه محمد الحبيب وأحد وزرائه وثلاثة فرسان من بينهم حرطاني، وكانت المطايا عبارة عن جمال تسير بهدوء وتوانٍ.
قبل المغادرة، قدم لهم الأمير الشراب، وأخذ عالِمَ الطبيعة جانبا، ونصحه أن يعهد بحفظ ساعته إلى ابنه محمد الحبيب طيلة الرحلة، حتى لا يستوليَ عليها الآخرون، كما وعده بأن محمد الحبيب سيعيدها إليه عند وصوله سان لويس بالسنغال؛ وهو ما تم بالفعل.
عندما كانت القافلة الصغيرة تستعد للمغادرة أراد الأمير أن يترك له ذكرى خاصة لدى الأوروبيين، فقص القصة التالية على كومر بعد أن أخذه إلى جانب، وقال له: هنالك زعيمان من رجالات قبيلتي كانا في صراع مستمر، وقد طلبا مني أن أكون حكما بينهما، لكن التحكيم لم يعط أي نتيجة، بل على العكس زاد الطين بلة؛ حتى إنهما دخلا في مشادة كلامية عنيفة لدرجة أن كلا منها خرج من الخيمة ليصارع الثاني. كان الأصغر منهما صديقي، وقد صرعه الأكبر وطرحه أرضا. ومع ذلك لم أستطع الانتقام منه؛ لسبب بسيط وهو أن أعرافنا لا تسمح لي بالميل إلى أي منهما، بل لا بد من الحياد التام.
أعجب السيد كومر بهذا الخلق الذي عبرت عنه هذه القصة وودع الأمير أعمر ولد المختار، وانطلقت القافلة التي كانت تقطع المسافات وفق مراحل قصيرة. لكن الملاحظ أن المخاوف كادت تقضي على الفرنسي روجري الذي لا يفتأ يتساءل كيف لي بقضاء هذا الملبغ الباهظ، يبدو أنني لن أخرج من قضاء هذا الالتزام إلا وقد دمرت حياتي؟ لم تعد لروجري المغموم رغبة في الأكل أو في الحديث. وفي أحد أيام السفر، وأثناء أخذ الغداء، أخرج الوزير وثيقة التعهد الموقعة من طرف كومر وروجري من محفظته الجلدية، فما كان من روجري إلا أن هرع إلى الرَّق لتمزيقه. وعندها كانت معركة قوية بين روجري وأحد أعضاء البعثة الذي أمسك برقبة الفرنسي وطرحه أرضا، وسحب خنجره وكاد يقضي عليه. تدخل كومر لإنقاذ رفيقه وتشفع لدى محمد الحبيب في تخليصه والعفو عنه، فسامحه محمد الحبيب لكنه حكم عليه بالقيام ببقية الرحلة سيرا على الأقدام. 
أخيرا، وفي 19 يوليو 1816 وصل المسافرون إلى كراع انيرزيك، أو بحيرة البعوض كما تسميها الخرائط الفرنسية، وبهذا المكان قرية موريتانية تقع على مشارف مدينة سان لويس وهي أول يصادفها المسافرون القادمون من جهة الشمال. وقد استضافتهم سيدة من سكان القرية بالحليب والكسكس، وروت لهم قصتها مع سيدها وكيف أن حاكم سان لويس العقيد الفرنسي بلانشو استنقذها منه، وأبدت تعاطفها الشديد مع الأوروبيين الاثنين، وهو ما أعجب روجري. وما إن اقتربت القافلة من سان لويس حتى سلم محمد الحبيب الساعة لكومر.
وجدت الرفقة في استقبالها الوالي الفرنسي بالسنغال العقيد شمالتز الذي كان قد نجا ضمن من نجوا من نفس سفينة لا ميدوز كما ذكرنا، وقد أبدى فرحه بعالم الطبيعيات كومر وبالموظف روجري وبوفد الترارزة الذي أوصلهم بأمن وأمان إلى اندر، ووعد الوفد وعد شرف بقضاء تكاليف الرحلة التي التزم بها ضيفاهم.
ويذكر كومر في الختام أن الوالي شمالتز تحايل على محمد الحبيب فأعطاه ستين فرنكا، وكل فرنك عبارة عن "سُفَايتيْن"، أي أنه أنه استلم 120 قطعة نقدية، وأمام هذا الكم الهائل من قطع البرونز ذات الوزن الثقيل تم إرباك محمد الحبيب كما يقول كومر، الذي لم يطالب بالباقي. وكانت حيلة الوالي شمالتز أن يكون المبلغ المدفوع من أصغر قطع العملات المعدنية، حتى يكون كثيرا جدا عند رؤيته وقليلا عند عده. وما كان من كومر إلا أن خاطب رفيقه روجري الذي لم تصدق عينيه ما يرى قائلا: "لقد كان لنا ما نريد".

بعض معاني قصة عالم الطبيعيات الألماني كومر

من اللافت للانتباه لمن قرأ الفصل الرابع من كتاب أرمان برافييل، طوافة لا ميدوز، مدى اطلاع أمير الترارزة أعمر ولد المختار وحاشيته وكذلك زعيم أولاد السيد ولد إبراهيم الغالي على الأوضاع العسكرية في أوروبا في بدايات القرن التاسع عشر، ومتابعتهم بشغف للحروب النابوليونية، وخصوصا حملة نابوليون نحو مصر ومآلاتها. كما أنه من اللافت أيضا استيعاب الأمير للخرائط الجغرافية واستنطاقها لفهم الأحداث، وكون وزرائه على دراية بهذا الجانب الهام وهو أهمية الجغرافيا في فهم السياسية واستيعاب أخبار الدول ومسارات الحروب.
كما يفهم من نص كومر كيف أن الأمراء الموريتانيين في ذلك العهد مدركون تمام الإدراك لقيم الحياد والعدل وضرورة أخذ الحاكم مسافة متساوية من جميع أفراد رعيته، وهو معنى القصة التي رواها الأمير أعمر ولد المختار لكومر قبل مغادرته للمحصر.
كما نفهم من قصة كومر انعدام الأمية في الأحياء البدوية في هذه الصحراء البعيدة، وكيف أن هذا الألماني فاجأته مهارات السكان ومعارفهم اللغوية، حيث إن صغار الحي من أطفال لم يبلغوا السادسة من العمر كانوا يقرؤون ما يكتب لهم باللغة العربية بطلاقة.
ويبدو أن عالم الطبيعيات الألماني أدولف كومر روى حكايته بالتفصيل للفنان الفرنسي جيريكو، الذي أوحى إليه حديث كومر عن مجلس أمير الترارزة بإبداع لوحة جميلة متخيلة يظهر فيها أمير الترارزة أعمر ولد المختار وحاشتيه وهم يستنطقون خريطة جغرافية تتبع مسار الامبراطور نابليون من جزيرة إلبا الإيطالية إلى باريس. ولم ينس الفنان أن يصور الجِمال والخيول وعلى ظهورها بعض الفرسان أمام خيمة الأمير، فضلا عن العنصر النسوي، كما تظهر الأزياء التي تصورها الفنان بألوانها البسيطة، فضلا عن ظهور وزير الأمير وهو يرسم خريطة تحرك الامبراطور الفرنسي نابليون. 

خاتمة:
يوضح نص أرمان برافييل المفيد والذي استعرض فيه مرور عالم الطبيعيات الألماني أدولف كومر بمحصر الترارزة أن بعض الناجين من سفينة لا ميدوز قد لاقوا معاملة حسنة وضيافة لائقة عكس ما تذكره كتابات فرنسية أخرى من أن هؤلاء الناجين واجهوا سكانا متوحشين، وكان المحيط وأمواجه العاتية أرحم بهم من أولائك السكان الجشعين، فالنص يوضع غير ذلك، ويبين عكسه تماما. 
كما يبين بما لا يدع مجالا للشك الحيوية البالغة التي كانت تحظى بها الإمارات الموريتانية، وكونها شكلت جزءا من اهتمامات الفنانين العالميين الكبار، فلم نكن نعرف أن فنانا بمستوى جيريكو كان قد صمم صورة خاصة لأمير موريتاني في القرن التاسع عشر، وأن هذه اللوحة الفنية تعكس مستوى عاليا من ثقافة هذا الأمير وحاشيته وفهمهم للشؤون العالمية التي كانت حديث الساعة في عصره ألا وهي الحروب النابوليونية.
 

لوحة الفنان الفرنسي جيريكو الخاصة بأمير الترارزة أعمر ولد المختار وهو في مجلسه كما وردت في كتاب بافييل: طوافة لا ميدوز

لوحة الفنان الفرنسي جيريكو الخاصة بأمير الترارزة أعمر ولد المختار وهو في مجلسه وقد تم تلوينها

 

   خريطة للشواطئ الموريتانية جمعت عناصرها من عدة خرائط فرنسية وهي تبين مكان غرق السفينة لا ميدوز  

  

مخطط تقريبي لهيكل طوافة لا ميدوز والذي حشر عليه ما يقارب 150 راكبا

25. ديسمبر 2023 - 9:48

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا